المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (287)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (287)
[سورة المائدة:35-40]
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبۡتَغُوٓاْ إِلَيۡهِ ٱلۡوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ (35)
نداء للمؤمنين بلزوم التقوى والطاعة، وما يقرب من الله، جاء بعد ذكر العصاة المحاربين، سواء كانوا من المؤمنين أو من المشركين، الذين نزلت الآية بسببهم، فأولئك يقتلونَ للسلب والنهبِ والإفسادِ في الأرض، وهؤلاء دعوا إلى الطاعةِ والتقربِ إلى الله؛ لأجل أن يكونوا من المفلحين، وأيضًا هؤلاء مجاهدون في سبيل الله، لإقامة الدين وصلاحِ الخلق، فتوعَّد الله مَن قبلهم بالخزي والعذاب، ووعَد هؤلاء بأن يكونوا مِن المفلحين، ففي الآيات مقابلةٌ بين الطائعين والعاصين؛ للترغيب والترهيب.
ومعنى ابتغاء الوسيلة: توسّلوا إلى الله بطاعته، واطلبوا ذلك بالتقربِ إليهِ لا إلى غيره، وهناك معنى آخر للوسيلة، فسرَها به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وردت في الدعاء، بسؤال الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم عند سماع الأذان، قال صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ في الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ)([1]).
فالوسيلة: الطاعة، وما يتقرب به إلى الله، فهي صفة فعيلة بمعنى مفعولة، و(إليه) متعلق بالوسيلة، وتقديمه عليها لإفادة الحصر.
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا وَمِثۡلَهُ مَعَهُ لِيَفۡتَدُواْ بِهِ مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنۡهُمۡۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ (36) يُرِيدُونَ أَن يَخۡرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنۡهَاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّقِيمٞ (37)
المعنى: إن الذين كفروا إذا عاينوا العذاب في القيامة، لو ثبت لهم ملك السموات والأرض، وأرادوا أن ينفقوه ليفدُوا به أنفسَهم من العذاب، ما نفعَهم، ولا تُقبلَ منهم، فلو أداة شرط، مختصةٌ بالدخول على الأفعال، والفعل بعدها مقدر، دل عليه السياق، وورد في آيةٍ أخرى أنه لو كان لهم مِن الذهب ملءُ الأرض، لهانَ عليهم أن يفتدُوا به، فجواب (لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ) قوله (مَا تُقُبِّلَ مِنْهُم)([2]) واللام في قوله (لِيَفْتَدُوا بِهِ) تعليل للفعل المقدر، أي: لو ثبتَ لهم ملك السموات والأرض لأجل أن يفتدوا به ما قُبل منهم، وأعيدَ الضمير (بِهِ) مفردًا وهو عائد إلى أمرين – مَا في الأرضِ، ومِثلَه – فإما أن يكون على معنى ليفدوا بِما ذكر، فسُلك بالضمير مسلك اسم الإشارة، كما في قوله: (لَا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ)([3])، وهو استعمال شائع في اسم الإشارة، ومنه في الضمير قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِهِ)([4])، أي: من يأتيكم بذلك المذكور.
والذين كفروا في ذلك الموقف (يُرِيدُونَ) لو قبلتْ منهم فدية (أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ) وحُكم الله الذي تقررَ فيهم، ولا معقبَ لحكمه، هو قوله (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) دائمٌ لا ينقطع، وفي الآية الأخرى: (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ)([5])، وجاء الحكم بعدم خروجهم من النار بالجملة الاسمية (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا) دون الجملة الفعلية، بأن يقال: ولا يخرجون؛ لمَا في الاسمية من الدلالة على الثبوت والدوام، وجيء بها في سياق النفي المؤكدِ بدخول حرفِ الجر(بِخَارِجِينَ) مبالغة في تأييسِهم مما يريدونه.
وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا([6]) جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ (38) فَمَن تَابَ مِنۢ بَعۡدِ ظُلۡمِهِ وَأَصۡلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيۡهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ (39)
ذُكرت السارقة مع السارق ولم يكتف به، مع أنّ ما يعم الرجال يعمّ النساء؛ لأن المقام مقام الحدود، فلا تترك فيه الشبهة، والسرقة: أخذ مال له بالٌ خلسة من حرزه، واختلف العلماء في قدر ما لَهُ بال، وفي حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تُقْطَعُ اليَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا)([7])، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في حَجَفة، أي ترس من جلد، فمنهم([8]) مَن قوَّمَه بربعِ دينار ذهب، ومنهم من قوّمَه بدينار، والخطاب في قوله (فَٱقۡطَعُوٓاْ) لوُلاة الأمر؛ لأنهم من ينفذ الأحكام، وإذا فقد منهم مَن يقيم العدلَ وينفذ الأحكام، قام مقامهم جماعة المسلمين، من العلماء وأهل الحل والعقد (أَيْدِيَهُمَا) جمعت الأيدي باعتبار الأفرادِ من السراق، ورجع الضمير إلى أصحاب الأيدي مثنى وهم كثير، باعتبار الجنسين؛ السارق والسارقة، واليد لفظٌ مشترك للجزء، يُحد بالرسغ وبالمرفق وبالزند، وبينت السنةُ القطع من الرسغ، فقطع النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، ومن النساء المخزومية التي سرقت، ففي الحديث: (أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟ فَلَمْ يَجْتَرِئْ أَحَدٌ أَنْ يُكَلِّمَهُ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَقَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ، لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)([9]).
وجملة (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا) قُطعت، ولم تُعطف على ما قبلها، لوقوعها موقع التعليل، وبيان أن قطع يد السارق للجزاء على فعلته، فجزاءً مفعول لأجله، أو حال، أي القطع هو عقوبة للسارق وجزاء مكافأة له بما يستحق، فهذه العقوبة استحقاها بسبب كسبهما وجنايتهما، و(نَكَالًا) لم تعطف أيضًا؛ لأنها تعليل للعقوبة، عقوبة للتنكيل بهما بمنعهما من المعاودة، وردع غيرهما، فنكالا منصوبٌ كالذي قبله، على المفعول لأجله أو الحال.
فمن أصلح نفسه بالتوبة، وندم من بعد ظلمه بالسرقة، فإن الله يقبل توبته إن علمَ صدقه، والتوبة في السرقة تسقطُ الإثمَ، ولا تسقطُ الحدَّ، ولا المال المسروق، بل تجبُ إقامة الحد ورد المال على كل حالٍ، حتى لو تابَ السارق، عند جمهور أهل العلم، وليس سبب حدِّ الحرابة والسرقة واحدًا، ولا حكمهما واحدًا، لذا فلا وجه لحمل المطلق وهو حدّ السرقة، على المقيَّد وهو حد الحرابة، في سقوط الحد على مَن تاب في السرقة قبل القدرة عليه؛ لعدم اتحاد الحكم والسبب بين الحرابة والسرقة.
أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ (40)
الخطاب في (أَلَمۡ تَعۡلَمۡ) للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من يتأتى منه، وعقِب عقوبة قطع السارق وصفَ اللهُ نفسَه بأنه (عَزِيزٌ حَكِيمٌ) جنابُه منيع، يُعاقِب الظالمين ولا يبالي، وأنه حكيم، أحكامُه على وفق ما يصلحُ عباده، ثم ذكر أن السارق مع عظيم جرمه يغفرُ الله له إنْ تاب، ولا يملك أحدٌ عليه اعتراضًا (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فملك السماوات والأرض له (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا معقب لحكمه، وقدم العذاب على المغفرة في هذه الآية على خلافِ الأصلِ، كما جاء في الآيات الأخرى، وكما جاء في الحديث القدسي: (سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي)([10])؛ لأن المقامَ هنا مقامُ عقوبة، وإقامة حدود على جرائم الحرابة والسرقة، وقبلهما القتل.
[1]) مسند الإمام أحمد: 6568.
[2] ) (لو) وما في حيزها من الشرط والجزاء خبر (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وجملة (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) عطف على (مَا فِي الْأَرْضِ).
[3]) البقرة: 68.
[4]) الأنعام: 46.
[5]) الحجر: 48.
[6]) (أل) في السارق والسارقة لتعريف الجنس، تفيد العموم (وَالسَّارِقُ) مبتدأ خبره محذوف، تقديره: مما يتلى عليكم (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) أي حكمهما، وهي جملة مستقلة، غير معتمدة على الفعل بعدها (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) وتكون (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) تفسيرا لما قبلها، والفاء للتفريع، ومن النحويين من يجعل الجملتين جملة واحدة، مبتدأ وخبر، السارق والسارقة مبتدأ، أل فيهما اسم موصول أفاد العموم، في معنى الشرط، وجملة فاقطعوا خبر دخلت عليه الفاء، لشبه الموصول بالشرط.
[7]) البخاري: 6789، مسلم: 1684.
[8]) البخاري: 6792، مسلم: 1685.
[9]) البخاري: 3733، مسلم: 1688.
[10]) البخاري: 7553، مسلم: 2751.