دخول مكة من غير إحرام
دخول مكة من غير إحرام
بسم الله الرحمن الرحيم
دخول مكة من غير إحرام
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
فقد اتفق أهل العلم على أن من كان قاصدا مكة لأحد النسكين؛ حج أو عمرة، وهو مكلف، لا يجوز له تجاوز الميقات ولا دخول مكة من غير إحرام، لما دل عليه حديث ابن عباس الذي ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت، ثم قال: ( هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ )، فإن كان الداخل قاصدا مكانا آخر غير مكة، مثل المدينة المنورة، أو جُدّة، أو كان غير مكلف مثل الصبي، فيجوز له تجاوز الميقات من غير إحرام، لتقييد وجوب الإحرام في حديث المواقيت بمن أراد الحج أو العمرة، ولأن غير المكلف مرفوع عنه الخطاب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ؛ عَنِ المَجْنُونِ المَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ).
واختلفوا فيمن يريد دخول مكة لا لحج أو عمرة بل يريد دخولها لغرض آخر؛ كتجارة، أو زيارة، أو حاجة، أو صلاة في الحرم وطواف، هل يجوز له دخولها من غير إحرام، أم لا؟، فمن أهل العلم من منع، ومنهم من جوز مطلقا، ومنهم من جوز مع الكراهة التنزيهية على التفصيل الآتي:
المانعون :
قال الحنفية، وجمهور المالكية في المشهور عنهم، وجمهور الحنابلة في المذهب، والشافعي في القديم ـ أي القول
المرجوح عند الشافعية ـ قالوا: لا يجوز دخول مكة من غير إحرام، ومن فعل ودخل من غير إحرام أثم، فإن كان وقت دخوله
ممن يريد الحج أو العمرة ودخل من غير إحرام فعليه دم، وإلا يُرِدْ حجا ولا عمرة عصى بدخوله ، ولا دم عليه عند
الجمهور.
وقال المالكية في المشهور: إلا أن يكون صرورة ـ أي لم يحج حجة الإسلام ـ فيلزمه الهدي بالدخول دون إحرام مطلقا ولو لم يرد حجا ولا عمرة.
وقال الحنابلة: متى أراد الداخل لغير النسك الإحرام بعد تجاوز الميقات, رجع فأحرم منه, فإن أحرم من دونه, فعليه دم, كالمريد للنسك.
ففي الدر المختار: ( وحرم تأخير الإحرام عنها ـ أي المواقيت ـ لآفاقي قصد دخول مكة ولو لحاجة ).
وفي المدونة قال: ( قال مالك: لا أحب لأحد من الناس أن يَقدم من بلده إلى مكة فيدخلها من غير إحرام. قال مالك: ولا يعجبني قول ابن شهاب في ذلك ).
وفي الأم قال الشافعي: ( ولم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة علمناه إلا حراما، إلا في حرب الفتح، فبهذا قلنا إن سنة الله تعالى في عباده أن لا يُدخل الحرمُ إلا حراما ).
وفي مغني المحتاج بعد ذكر مشهور المذهب في حكم دخول مكة من غير إحرام قال: ( وفي قول: يجب، وهو منصوص الأم+.
وفي المغني ): ( المكلف الذي يدخل لغير قتال ولا حاجة متكررة, فلا يجوز له تجاوز الميقات غير محرم ).
دليل المانعين:
استدل المانعون بقول النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح ، وقد دخل مكة من غير إحرام: ( وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لا تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي )، وبما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ( لا تُجَاوِزوا الوقت إلا بإحرام )، وكان ابن عباس يردّ من جاوز الميقات من غير أن يحرم .
واستدلوا أيضا بأن وجوب الإحرام هو لتعظيم هذه البقعة الشريفة، فيستوي فيه الحاج والمعتمر وغيرهما، وبأنه لو نذر أحد دخول مكة لزمه الإحرام, ولو لم يكن واجبا لم يجب بنذر الدخول, كسائر البلدان ).
واستثنى الجمهور؛ المالكية، والشافعية، والحنابلة، من طلب الإحرام حالتين:
الأولى ـ حالة الفتنة والخوف، لقول الله تبارك وتعالى: قال الشافعي: ( فأذن الله للمحرمين بحج أو عمرة أن يحلوا لخوف الحرب, فكان من لم يُحرم أولى إن خاف الحرب أن لا يُحرم ، مِن مُحْرم يخرج من إحرامه ).
وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح وعلى رأسه المِغْفَر حين كان يخاف القتال، كما في الموطأ عن أنس، قَالَ مَالِك: ( وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ الله * يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا )، وكذلك قال ابن شهاب .
وفي الموطأ: ( أن ابن عمر خرج من مكة يريد المدينة، حتى إذا كان بقُديدٍ (موضع) جاءه خبر من المدينة، فرجع إلى مكة من غير إحرام ).
قال مالك: ( أرى ذلك واسعا في مثل الذي صنع ابن عمر, حين خرج إلى قديد فبلغه خبر الفتنة فرجع فدخل مكة بغير إحرام, فلا أرى بمثل هذا بأسا ).
الثانية ـ المترددون على مكة بالسلع والطعام والوقود وسائقوا سيارات الرُّكَّاب والأجرة، ومن كان في حكمهم ممن يكثر تردده، هؤلاء لا يجب عليهم إحرام، لأن ذلك يكثر منهم، فيشق عليهم الإحرام، فلو طولبوا به في كل مرة لوقعوا في الحرج .
وأضاف المالكية إلى ما ذكر حالتين أخريين:
1 ـ من خرج من مكة إلى مكان قريب على مسافة القصر فأقل، مثل جدة والطائف، ناويا الرجوع إليها، ولم يُقم خارجها كثيرا، فإن له أن يرجع إليها من غير إحرام، لكثرة وقوع ذلك من الناس فيشق عليهم، فإن طالت إقامته خارجها فلا يدخلها إلا بإحرام.
2 ـ من خرج من مكة ناويًا مغادرتها، وعاقه عائق عن السفر، فله الرجوع إليها من غير إحرام ولو بقي خارجها مدة طويلة، مادام المكان الذي خرج إليه قريبا من مكة لا يتجاوز مسافة القصر، لأن العائق مع قرب المكان عذر، فإن كان بعيدا لم يرجع إليها إلا بإحرام.
واستثنى الحنفية من وجوب الإحرام، من خرج من مكة إلى مكان دون الميقات كجدة، ثم رجع إلى مكة، فلا يجب عليه إحرام عندهم مطلقا، لأن في ذلك حرج ومشقة لكثرة وقوعه.
كما استثنوا من قصد حين مروره بالميقات موضعا من الحل؛ كجدة، وبعدها يريد مكة لغير قصد نسك، فلا حرج عليه في دخول مكة من غير إحرام، لتقييد وجوب الإحرام في حديث المواقيت بمن أراد الحج أو العمرة.
والحنفية وإن لم يصرحوا باستثناء حالتي: الخوف، والمترددين على الحرم، على نحو ما سبق عند الجمهور، فإن تعليلهم منع الوجوب فيمن هو داخل الميقات بأنه يكثر دخولهم مكة، وفي إيجاب الإحرام كل مرة حرج بَيِّن عليهم فصاروا كأهل مكة، حيث يُباح لهم الخروج منها ثم دخولها بغير إحرام ـ هذا التعليل يدل على أن مذهبهم يوافق الجمهور في استثناء الخائفين والمترددين على الحرم كما نَبَّه على ذلك العراقي في طرح التثريب.
المجيزون:
قال أهل الظاهر: من أراد دخول مكة غير قاصد النسك لا يلزمه الإحرام، وقال الشافعية ـ في الأصح عندهم: يُستحب الإحرام، ولا يجب، لمن أراد دخول مكة لغير حج ولا عمرة، إذا كان قد أدى حجة الإسلام ، وعمرة الإسلام.
قال الشوكاني: وهو الأخير من قولي الشافعي، وأحد قولي أبي العباس ـ يعني ابن سريج أحد أئمة المذهب الشافعي الأعلام .
وفي الجواهر لابن شاس من المالكية: ( وقيل يُكره ـ أي دخول مكة من غير إحرام ـ ، وقال أبو مصعب: يباح ).
وقال العراقي: ( وعدم الوجوب؛ رواية ابن وهب عن مالك، وروي عنه أيضا مثل رواية غيره من أصحابه، حكاهما ابن عبد البر )، أقول: ولم أر هذه الرواية عن ابن وهب عند ابن عبد البر.
وفي الأم قال الشافعي: ( فإن قال قائل: فأما دخوله مكة بغير إحرام فلما كان أصله أَنَّ مَنْ شاء لم يدخلها إذا قضى حجة الإسلام وعمرته كان أصله غير فرض، فلما دخلها مُُحِلاًّ فتركه كان تاركا لفضل وأمر لم يكن أصله فرضا بكل حال، فلا يقضيه ).
وفي مغني المحتاج: ( ومن قصد مكة أو الحرم لا لنسك، استحب له أن يحرم بحج ـ إن كان في أشهره ويمكنه إدراكه ـ أو عمرة، قياسا على التحية، وهذا ما في المجموع عن الأكثرين، وعن نص الشافعي في عامة كتبه ).
وفي المجموع بعد أن ذكر النووي الخلاف، قال: إن الأصح عدم الوجوب، وعزا إلى البندنيجي قوله: ( وهو نص الشافعي في عامة كتبه ), ثم قال:(… فالحاصل أن المذهب أنه لا يجب الإحرام لدخوله مكة على من دخل لتجارة ونحوها مما لا يتكرر, ولا على من يدخل لمتكرر، كالحطاب، ولا على البريد ونحوه).
وفي المغني: ( وقال بعضهم: لا يجب الإحرام عليه، وعن أحمد ما يدل على ذلك ).
وفي المحلى قال ابن حزم: ( ودخول مكة بلا إحرام جائز ).
أدلة المجيزين:
استدل المجيزون بحديث الأقرع بن حابس في الصحيح وفيه: (… أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ الله عَلَيْكُم الحَجَّ فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ الله، فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاثًا، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ )، فلم يوجب الله تعالى الإحرام لدخول مكة في الحج إلا مرة واحدة, وفي العمرة مثله عند من يقول بوجوبها، فبقي ما عداه على البراءة الأصلية من عدم الوجوب.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل المواقيت لمن مر بهن يريد حجا أو عمرة, كما تقدم نصه، ولم يجعلها لمن لم يرد حجا ولا عمرة, فلم يأمر الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا يُدخل مكةَ إلا بإحرام، فالقول بوجوب الإحرام إلزام بما لم يأت في الشرع إلزامه .
واستدلوا أيضا بأن المسلمين كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم يختلفون إلى مكة لحوائجهم, ولم يُنقل أنه أمر أحدا منهم بإحرام، كقصة الحجاج بن عِلاط, ومن ذلك قصة أبي قتادة لما عقر حمار الوحش داخل الميقات وهو حلال, وقد كان أرسله صلى الله عليه وسلم لغرض قبل الحج، فجاوز الميقات لا بنية الحج ولا العمرة, فأقره صلى الله عليه وسلم ، فقد جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن أبي قتادة أن أباه حدثه قال: ( انْطَلَقْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ أُحْرِمْ…)، لاسيما مع ما يقضي بعدم الوجوب من استصحاب البراءة الأصلية إلى أن يقوم دليل ينقل عنها، ولأن الإحرام إنما هو تحية لبقعة فلم تجب كتحية المسجد.
وأما قول ابن عباس بالوجوب فيعارضه مذهب ابن عمر أنه كان لا يراه واجبا، وأما حديث: ( وَإِنَّهَا لا تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي )، فالمراد بالخصوصية القتال في مكة, وليس في جميع طرق الحديث ما يقتضي الإحرام, وإنما هو صريح في القتال.
أيهما أخف، دخول بلا إحرام أم سعي في غير المكان:
الداخل إلى مكة هذه الأيام ـ والمسعى القديم معطل لإعادة بنائه ـ لا بد له من أحد أمرين، في كل منهما يرتكب مخالفة على وجه من الوجوه.
أحدها أن يدخل مكة من غير إحرام، وهو ما لا يجيزه جمهور أهل العلم، لكنه يسلم من الأمر الآخر، وهو التلبس بإحرام لا يقدر على التحلل منه على الصحيح من أقوال أهل العلم، حيث إن جمهورهم يرى أن السعي ركن في الحج والعمرة، لا يَقْدر المحرم على التحلل من إحرامه إلا بالسعي بين الصفا والمروة، والمسعى الجديد إضافةٌ خارجةٌ عن الصفا والمروة، فسعيه فيه كالعدم، لمخالفته للنص، ولما استقر عليه العمل في موضع السعي منذ عهد النبوة إلى يومنا هذا.
فهما محظوران يقع في أحدهما جزما من دخل مكة هذه الأيام بإحرام، ومن دخل حلالا، لكن محظور دخول مكة من غير إحرام حتى عند القائلين بالمنع منه ـ يظهر والله أعلم ـ أنه أخف من محظور التلبس بالإحرام مع عدم القدرة على التحلل منه، وذلك لما يأتي:
1 ـ دخول مكة ورد فيه الترخيص للعذر والمشقة بالاتفاق، فاستثنيت منه حالة الخوف والفتنة، واستثني منه المترددون بالطعام والسلع وغيرهم من ذوي الحاجات، لما يلحقهم من المشقة بتكرر الإحرام، ولم يرد استثناء لمن أحرم بترك السعي بحالٍ، بل يُكَلَّف به الصغير والكبير، والصحيح والمريض، والعاجز والقادر، ويُُسعى بمن لا يُطيق السعي وبالرضيع محمولا، ويَرجع إليه المحرم إن تركه من بلده عند جمهور أهل العلم، ولا يتحلل من إحرامه إلا بالإتيان به، على حين يسقط طلب الإحرام لدخول مكة بالاتفاق على الصغير وغير المُكَلَّف والخائف ومن يَشُقّ عليه ذلك، لكثرة تردده، وما يسقط بالعذر أخف مما لا يسقط بحال.
2 ـ معرفة الداخل مكة قفل مكان السعي الذي لا يتأتى التحلل إلا به، هو في ذاته عذر يمكن أن يبيح الدخول بغير إحرام، ويُلْحَق بما ذكره الفقهاء فيمن استُثْنِيَ من وجوب الإحرام. ولعل في عبارة الشافعي الآتية ما يُدْخِل ما ذُكِرَ في الأعذار ويتسع له، فقد جعل من العذر حدوث أمر لا يُقدر على دفعه، وقفل المسعى ـ دون شك ـ مما لا يُقْدَر على دفعه.
ففي الأم: ( ويجوز عندي لمن دخلها خائفا من سلطان أو أمر لا يقدر على دفعه، تركُ الإحرام، إذا خافه في الطواف والسعي, وإن لم يخفه فيهما لم يجز له ).
3 ـ أذن الله تعالى للمحرمين أن يحلوا بسبب الإحصار، فكان من لم يحرم أولى إن خاف الإحصار أن لا يُحرم لدخول الحرم، مِن مُحْرم يخرج من إحرامه، كما تقدم عن الشافعي نظيره، ومن لا يقدر على السعي في موضعه الصحيح هو في حكم المحصر.
4 ـ وجوب السعي بين الصفا والمروة ثابت بالكتاب والسنة، ووجوب الإحرام لدخول مكة موضع اجتهاد مستنبط لا منصوص، ليس في وجوبه سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والصحابة روي عنهم الوجهان، فتركه لمن أراد دخول مكة أخف من ارتكاب تَلَبُّسٍ بإحرامٍ ، التَّحَلُّلُ منه لا يكون إلا بالإتيان بسعي صحيح فرضيته في الحج والعمرة ثابتة بالكتاب والسنة ، والله تعالى أعلم .
وكتبه: الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
25 رجب 1429 هـ،
الموافق 28 / 7 / 2008