بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (4796)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
أنا أستثمرُ في أموالِ أحدِ أصدقائي، باعتباري وكيلاً عنه، وقد اتفقنا مع محل لبيع الملابس على البنود التالية:
- يقوم مندوب المحل بإعداد فواتير العرض وإرسالها إليَّ من المصدر، ثم أحوِّلُ المبلغَ إلى حساب المصدر.
- تُشحن البضاعة مباشرة -وهي تحت ضمان المستثمر-إلى المحل، وصاحبُ المحلِّ بالخيار ما لم تصل إليه، ويعتبر مشتريًا لها بمجرد وصولها إلى المحل، بناء على وعدٍ مُلْزِمٍ سابق بيننا، دون تجديد عقد عند وصول البضاعة، وهكذا في سائر الصفقات التالية.
- الربح متفق عليه مسبقًا، وهو 15% من إجمالي ثمن البضاعة وتكاليفها.
- مدةُ الصفقة الواحدة ستةُ أشهر، والاتفاقُ أن يُسَدِّدَ صاحبُ المحلِّ في كل شهرٍ ما يتحصَّل عليه من مبيعات، دون تحديد مبلغ ماليٍّ شهريّ، على أن يُسدِّدَ باقي ثمن الصفقة كاملا بنهاية الستة أشهر، وما أحصّلُهُ من تلك الأقساط؛ أشتري به بضاعة الصفقة التالية.
- تتكرر الصفقة مرتين في السنة، في موسمي الصيف والشتاء، ويكون شراءُ البضاعة من المصدر، وتوريدُها، وبيعُها للمحل، وسدادُ ثمنها للمستثمر بنفس هذا الاتفاق.
- لم تُصَفَّ الصفقةُ الأولى بكاملها، بل بقيَ منها دَيْنٌ على المحلّ، وهذا تكرر من صفقةٍ إلى أخرى.
أفيدونا بحكم هذه المعاملة، وهل يجوز لنا الاستمرار فيها؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإنَّ هذه المعاملةَ من قبيل بيوع العِينَةِ الممنوعة، المحكومِ بفسادها شرعًا، لما فيها من المواعدة على بيع السلعة بالآجل قبل شرائها، والتحايلِ بذلك على الربا بصورةٍ ظاهرُها البيعُ والشراء.
فإنه لما كان المختارُ للبضاعة والـمُعِدُّ لفواتيرها هو صاحب المحلِّ عن طريق مندوبه، وليس على المستثمر إلا دفعُ ثمنها، على أن يتقاضاه بعد الأجل المتفق عليه بزيادةِ 15%، وصاحبُ المحلِّ مُلْزَمٌ بذلك مهما جرى له من الربح والخسارة؛ كان المستثمرُ بذلك داخلًا على الربح ابتداء، مُتَّهَمـًا بقصدِ السلف بزيادة؛ لأنه في حقيقة الأمر إنما أسلف صاحبَ المحل ثمنَ البضاعة، واشترط عليه أداءه بعد الأجل بزيادة، وذلك عينُ الربا، ولا معنى للخيار الثابت لصاحب المحل قبل وصول البضاعة إليه؛ لأنَّ اختيارَها إنما كان مِنْ قِبَلِه، فكأنه اشتراها لنفسه من بداية الأمر، فلا معنى لوجود الخيار، وقد نهى النبيُّ صاى الله عليه وسلم عن بيع الرجلِ السلعةَ قبل أن يتملَّكها، قال حكيم بن حزام رضي الله عنه: (أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ فَقُلْتُ: يَأْتِينِي الرَّجُلُ يَسْأَلُنِي مِنَ الْبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدِي، أَبْتَاعُ لَهُ مِنَ السُّوقِ ثُمَّ أَبِيعُهُ، قَالَ: لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ) [الترمذي: 1232]، ونهى ابنُ عمر أن يأتيَ الرجلُ إلى آخرَ ويقولَ له: (اشْتَرِ كَذَا وَكَذَا وَأَنَا أَشْتَرِيهِ مِنْكَ بِرِبْحِ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ لَهُ: لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ) [الموطأ: 2361]، وقال ابنُ رشدٍ وهو يُعدِّد صور العِينة الممنوعة: “الثَّانِيَةُ: أَن يَقُولَ لَهُ -أَيْ: مُرِيدُ الشِّرَاءِ لِلْبَائِعِ-: اشْتَرِ سِلْعَةَ كَذَا بِعَشَرَةٍ نَقْداً، وَأَنَا أَبْتَاعُهَا مِنْكَ بِاثْنَيْ عَشَرَ إِلَى أَجَلٍ، قَالَ: فَهَذَا لَا يَجُوزُ” [البيان والتحصيل 8/221]، وقال القاضي عياض في كتابه التنبيهات: ” الْحَرَامُ الَّذِي هُو رِباً صُرَاحٌ…” وجعل منه هذه الصورة، فقال: “يُرَاوِضُهُ عَلَى رِبْحِ السِّلْعَةِ الَّتِي يَشْتَرِيهَا لَهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَيَقُولُ: أَنَا أَشْتَرِيهَا عَلَى أَنْ تُرْبِحَنِي فِيهَا كَذَا أَوْ لِلْعَشَرَةِ كَذَا” [منح الجليل 5/106].
ثم إنَّ هذه المعاملةَ قد اشتملتْ على محاذيرَ أخرى، تؤدي إلى بطلانها، ولو افتُرضتْ سلامتُها من تهمة التحايل على الربا، بأن قام المستثمرُ على شراء البضاعة من المصدر بنفسه، أو وكَّل أحدًا من طرفه بذلك؛ فإنَّ مِنْ مُفسدات عقد البيع؛ الجهالةَ في الثمن والـمُثْمَن، والجهالةَ في قيمة الأقساط المؤجلة من الثمن، ولم تَسلم هذه المعاملة من هذه الجهالات، إذ لا يَعلم كلٌّ من المستثمرِ وصاحبِ المحل -عند العقد- شيئًا عن البضاعة والأصناف التي ستُختارُ فيما بعد، ولا شيئا عن أثمانها، لا في هذه الصفقة ولا في الصفقات التي تليها، حيث إنهما جعلا الاتفاقَ الأوَّلَ مُلْزِماً لا يحتاجون معه إلى إنشاءِ عقدٍ عند وصول البضاعة، واشتراطُ أداء الأقساط بالصورة المذكورة، وهي أن تُسَدَّدَ الأقساطُ بما يتحصَّلُ من المبيعات في كل شهر؛ ممنوعٌ للجهالة بما يتحصل، وهو غرر، بدليل ما جاء في السؤال مِنْ أنَّ هناك ديونا من كلِّ صفقة لم يُقدرْ على أدائها، وهذا ناجم عن حصول ما يعرف عندهم بالستوك، وهي البضاعة الكاسدة التي لا يجدون لها مشتريا، وهذا الغررُ مُفسدٌ للبيع، قال الدسوقي: “فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الثَّمَنِ وَالْمُثْمَنِ مَعْلُومَيْنِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَإِلَّا فَسَدَ الْبَيْعُ ” [حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/15].
وعليه؛ فإنَّ هذه المعاملةَ فاسدةٌ، ويترتب عليها ما يترتب على البيع الفاسد، فيجب على صاحب المحل ردُّ البضاعة التي ما زالت قائمةً بعينها إلى صاحبها -المستثمر-، وأما البضاعةُ التي فاتتْ بالبيع؛ فإنه يُقدِّرُها ويردُّ إليه قيمتها يوم قبضه لها، لا ثمنَها الذي اشتُرِيَتْ به، دون زيادة رِبح، ويجب على المستثمر أن يردَّ إلى صاحب المحل كلَّ ما تقاضاه من الأموال ثمنًا للبضائع التي استردَّها، والبديلُ الشرعيُّ الأمثلُ لهما أن يعقدَا عقدَ مضاربة، يكونُ فيها المالُ من المستثمر، والعمل والجهد من صاحب المحل، ويتفقان على نسبة الربح أنصافًا أو أثلاثًا أو كما يشاءان، ومتى حصلتْ لهما خسارة؛ فإنها على صاحب المال في ماله، وعلى صاحب المحل في عمله وجهده ما لم يُفَرِّطْ، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
أحمد ميلاد قدور
حسن سالم الشريف
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
30//رجب//1443هـ
03//03//2022م