بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (4501)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
قمتُ باستصلاح كامل قطعة أرض، بحفر بئر وغرس أشجار زيتون ونخل وكرم، منذ أكثر من 30 سنة، وتعاهدتها حتى أصبحت منتجة، والآن قرر الورثة بيع الأرض، ووكلت بذلك، فهل يحق لي خصم المصاريف التي صرفتها على هذه الأرض من ثمن البيع، أم لا؟ وهل يمكنني شراؤها من باقي الورثة على أنها أرض فضاء لا زرع فيها، بسعر السوق اليوم؟ علما أن الأرض المذكورة في الأصل هي ملك لجد أبي وقد توفي جدي وعم أبي قبل أبيهم وترك جدي ابنا واحدا وهو أبي وترك عم أبي بنتا، تركاهما صغيرين والحال أن لجد أبي -مالك الأرض- إخوة، فلما توفي آلت الأرض إليهم، إلى أن كبر أبي فسلمت له الأرض من إخوة جده، ثم توفي أبي وتركني صغيراً عمري 6 سنوات، ولا أعلم إن كان أبي يعلم بكون ابنة عمه وريثا معه أم لا، ولا سبيل لمعرفة ذلك، وقد علمت مؤخرا عندما بدأت بطلب المستندات الخاصة بملكية الأرض فلم أجد ما يثبتها لأبي، فعلمت أنها لجد أبي، أما باقي الورثة فلم يعلموا بالأرض وأن لهم فيها حصة إلا بعد إخباري لهم بذلك.
الجواب:
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أمّا بعد:
فإن كان الحال كما ذكر، من عدم علم الشريك الذي غرس وحفر البئر بوجود شريك معه حين الغرس، فيخير شريكه بين إعطاء حصته من قيمة الغرس قائما، أو يأخذ قيمة حصته من الأرض فضاء، ويترك الأرض وما فيها للشريك الغارس، وبهذا وقعت الفتوى في رجل تُصُدِّقَ عليه بأرض فبناها، ثم تبين أن فيها نصيبًا ليتامى وغائبين، فأفتى القابسي رحمه الله: “لَهُم إِذَا قامَ مُقِيمٌ أَوْ حَضرَ الغُيَّبُ أَنْ يَدْفَعُوا قِيمَةَ مَا يَنُوبُ هَذَا الْجَزْءَ مِنَ الْبُنْيَانِ قَائِماً إِذَا كَانَ الْبَانِي فَعَلَ ذَلِكَ وَهْوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِشَرِكَةِ أَحَدٍ… فَإِنْ أَحَبَّ بَانِي الدَّارِ تَمَادَى عَلَى ذَلِكَ مِنْ شَرِكَتِهِمْ، وَإِنْ أَحَبَّ دَعَا إِلَى الْبَيْعِ فَبَاعُوا مَعَهُ” [المعيار المعرب: 10/137-138]، ويؤاخذ الشريك الغارس بكراء السنين الماضية، في استغلاله حصة باقي الشركاء، قال الرَّهُونِي رحمه الله: “وَمِنْ ذِي الشُّبْهَةِ الَّذِي يُعْطِي الْكِرَاءَ وَلاَ يَقْلِعُ زَرْعَهُ مَن جَرَّ السَّيْلُ زَرْعَهُ إِلَى أَرْضِ غَيْرِهِ بَعْدَ نَبَاتِهِ… وَمِنْهُ مَنْ حَرَثَ أَرْضَ جَارِهِ غَلَطاً عَلَى مَذْهَبِ أَصْبَغَ فِي نَوَازِلِهِ مِن كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ، مُفَرِّقاً بَيْنَ الْبِنَاءِ غَلَطاً وَبَيْنَ الزَّرْعِ غَلَطاً… وَفِي الْمَقْصَدِ الْمَحْمُودِ: وَمَنْ غَلَطَ وَزَرَعَ أَرْضَ جَارِهِ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَن يُتَّهَمَ، وَعَلَيْهِ الْكِرَاءُ فَاتَ الْإِبَّانُ أَوْ لَمْ يَفُتْ. فَأَتَى بِقَوْلِ أَصْبَغَ غَيْرَ مَعْزُوٍّ كَأَنَّهُ الْمَذْهَبُ، وَقَيَّدَ الْحَلِفَ بِالْمُتَّهَمِ وَلاَ شَكَّ أَنَّهُ يُفِيدُ أنَّهُ الْمُعْتَمَدُ. اهـ. وَبَحَثَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي الِاتِّفَاقِ الْمُتَقَدِّمِ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ فِي بِنَاءِ الْعَرْصَةِ بِقَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ فِي الشُّفْعَةِ: مَنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ فِي أَرْضٍ يَظُنُّهَا لَهُ ثُمَّ اسْتُحِقَّتْ فَعَلَى مُسْتَحِقِّهَا قِيمَةَ ذَلِكَ قَائِماً لِلشُّبْهَةِ. ثُمَّ قَالَ: إِلاَّ أَن يُتَأَوَّلَ مَا فِي الشُّفْعَةِ عَلَى أَنَّهُ بَنَى فِي مَضْمُونٍ عَلَيْهِ بِثَمَنِهِ، لِقَوْلِهَا: ثُمَّ اسْتُحِقَّتْ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ فَكَلَامُهَا فِيمَنِ اشْتَرَى غَيْرَ عَالِمٍ بِالْغَصْبِ أَوْ مَنْ وُهِبَ لَهُ أَوْ وَرِثَ غَيْرَ عَالِمٍ أَيْضًا وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَ الشُّيُوخُ كَلَامَهَا” [حاشية أوضح المسالك وأسهل المراقي إلى سبك إبريز الشيخ عبد الباقي: 6/238]، وقال الدسوقي رحمه الله: “إذَا كَانَتْ دَارٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ شَخْصَيْنِ مَثَلًا فَاسْتَغَلَّهَا أَحَدُهُمَا مُدَّةً… فَإِنْ سَكَنَ أَكْثَرَ مِنْ [حِصَّتِهِ] رَجَعَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي عَدَمِ اتِّبَاعِ شَرِيكِهِ لَهُ إلَّا هَذَا الشَّرْطُ، وَهُوَ سُكْنَاهُ قَدْرَ حِصَّتِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ عِلْمِهِ بِالطَّارِئِ وَلَا فَوَاتُ الْإِبَّانِ” [حاشية الدسوقي: 3/466].
وبإمكانك شراء الأرض بما انتهى إليه الثمن في السوق، بعد عرضه على أكثر من مقوم عدلٍ ومشترٍ؛ لثبوت حق الشفعة لك بالشركة في المشاع، ما لم يقسم أو تقع الحدود، وهي سنة مجتمع عليها، ففي الموطأ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ بَيْنَهُمْ فَلاَ شُفْعَةَ فِيهِ) [الموطأ: 1457]، وبما أنك وكيل عن الورثة، فلا يجوز للوكيل الذي وكل على بيع شيء أن يشتريه لنفسه؛ للتهمة بمحاباة نفسه في الثمن؛ لاحتمال الرغبة فيه بأكثر مما اشتراه، إلا أن يكون الشراء بعد تناهي الرغبات فيه، ولم يعد هناك أمل بالزيادة فيه من أحد، أو أن يأذن الموكل للوكيل بالشراء لنفسه، أويتم شراء الوكيل لنفسه بحضرة الموكل، وهو ساكت؛ لأن سكوته إذن منه، قال الدردير رحمه الله: “(و) مُنِعَ (بَيْعُهُ) أَيْ الْوَكِيلِ (لِنَفْسِهِ) مَا وُكِّلَ عَلَى بَيْعِهِ وَلَوْ سَمَّى لَهُ الثَّمَنَ؛ لِاحْتِمَالِ الرَّغْبَةِ فِيهِ بِأَكْثَرَ، قال الدسوقي رحمه الله: الْمَنْع مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ شِرَاؤُهُ بَعْدَ تَنَاهِي الرَّغَبَاتِ، وَبِمَا إذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ رَبُّهُ فِي الْبَيْعِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ لِنَفْسِهِ بَعْدَ تَنَاهِي الرَّغَبَاتِ أَوْ أَذِنَ له الْمُوَكِّلُ فِي شِرَائِهِ لِنَفْسِهِ جَازَ شِرَاؤُهُ حِينَئِذٍ، وَمِثْلُ إذْنِهِ لَهُ فِي شِرَائِهِ مَا لَوْ اشْتَرَاهُ بِحَضْرَةِ رَبِّهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ حُكْمًا” [الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3/387].
عليه؛ فتقوّم الأرض مغروسةً وتقوّم فضاءً لا غرس فيها، ولك قيمةُ الغرس قائماً، وهو ما بين التَّقويمَيْنِ، فلك الرجوع عليهم بما زاده الغرس في قيمة الأرض إن بعتها، ولهم الرجوع عليك بكراء حصتهم فضاء طيلة السنين الماضية، كل سنة بحسبها بالمعروف، وما يقرره أهلُ المعرفة، إن تعذر معرفته بالتحديد، وتكون القسمة -حسبما ورد في سؤالك- بينك وبين ورثة ابنة عم أبيك فيصح لك من الفريضة الثلثان، ولورثة ابنة عم أبيك الثلث، ولا شيء لإخوة جد أبيك لأنهم محجوبون عن الميراث، والله أعلم.
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
عبد الدائم بن سليم الشوماني
حسن سالم الشّريف
الصّادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
28//رمضان//1442هـ
10//05//2021م