طلب فتوى
مقالاتمقالات المفتي

قراءة في المسئوليات والتطورات الأخيرة في ليبيا

قراءة في المسئوليات والتطورات الأخيرة في ليبيا

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد

فإنه في الوقت الذي ننادي فيه اليوم بالمصالحة الوطنية، هناك مصالحة أخرى ضرورية تعد الخطوة الأولى في المصالحة الوطنية وتسبقها، وهي المصالحة مع النفس.

ومعناها: مراجعة النفس ومساءلتها، ومراقبة الله تعالى في السر والعلن، ولوم النفس وتأنيبها عن التقصير، والتزام الحق، والعدل والبعد عن الهوى، والتخلص من الأنانية والأغراض والكراهية والأحقاد، والبعد عن فساد الماضي وانحرافاته وسلبياته.

والمصالحة مع النفس منها ما يعني الرئيس والمسئول، ومنها ما يعني المرؤوس وعامة الناس، ومنها ما يعنيهما معا.

 أولامسؤولية الرئيس وولي الأمر:

الرئيس والمسئول يشمل ولي الأمر، ورئيس الدولة والحكومة، والوزير، ورئيس المؤسسة، فكل هؤلاء ولي أمر ومسئول فيما وُلِّي عليه، ومصالحة النفس في حقهم تشمل ما يلي:

1 – التنبه إلى بطانة السوء وحاشية الكذب التي عادة ما تنتهز الفرص وتجد سبيلها إليهم عن طريق التمجيد الكاذب والمداهنة والنفاق، فأخطر ما يقع به الحاكم في الزلل بطانته السيئة، لذا عندما ذكر الماوردي في الأحكام السلطانية المهام العشرة التي يجب على ولي الأمر القيام بها تجاه الرعية، عَدَّ منها تعيين بطانته الصالحة وتفقد حواشيه، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّم) (آل عمران آية 118)، وخطورة بطانة السوء على الحاكم والأمير الصالح تكمن في حجب ظُلاَمَات الناس وحقائق الأمور عنه، واستبدال ذلك بما يخدم مصالحها ويعزز نفوذها وتسلطها، فالمتعين على ولي الأمر اتخاذ حاشية نصحاء أمناء من ذوي الدين والكفاية، فإن غير ذوو الدين والأمانة يغشُّونه ولا تصل إليه الأمور من خلالهم إلا مُشوَّهة، ولا يعفيه التقصير حينها فيما يجب اتخاذُه لحفظ الوطن من المسؤولية.

2 – التفطن إلى أن مسؤوليته شاملة لكل ما يقع تحت سلطانه من صغير الأمور وكبيرها، كما قال عمر، وهو بالمدينة: لو عثرت بغلة بالعراق لخفت أن يسألني الله عنها لِمَ لَمْ تُسَوِّ لها الطريق؟. قال صلى الله عليه وسلم: (فَالْأَمِيرُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ، … أَلا وَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).

3 – الشفافية والوضوح، والتخلص من العشوائية وعدم التخطيط، والاستبدادِ، والظلمِ، وانتهاكِ الشرائع والقوانين، والتحايلِ عليها، واختلاسِ الثروات ونهب المال العام، واختلاقِ المشاريع الخاسرة أو الوهمية لسرقة الأموال، والهيمنةِ على الضعفاء واستغلال النفوذ، والابتعادُ عن المقايضة في المصالح وتبادل المنافع، وأن يَعُدَّ المسئول ذلك كله من السحت والرشوة المبطنة، وإن سميت بغير اسمها.

4 – إتاحة تكافئ الفرص بين الرعية وإنزال الناس منازلهم، والتقديم بينهم بالكفاية والمهارة والخبرة والإتقان والإخلاص والعطاء للبلد والمؤَهَّل، والمنافسةِ الحقيقية العادلة، لا بالجهة والقبيلة والعائلة، أو الارتشاء وفساد الذمم، والتخلصُ من العصبية الضيقة والقبلية المقيتة، إلى رحابة الوطن وانتماء الإسلام وأخوة الإيمان (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات آية 10).

5 ـ التواضع والرفق والاقتراب من ذوي الحاجات والمظلومين دون أن يحوّجهم إلى وساطة صديق أو قريب أو ذي سلطان، وأن يعلم أن عدل ساعة فيما وُلِّيَه أفضل من عبادة سنة.

والسؤال الآن بعد معرفة مسئوليات ولاة الأمر والحكام، كيف نفسر عجز الحكومة عن بسط نفوذها على العاصمة، التي مظاهرُها كثيرة، وأضرب عليها ثلاثة أمثلة:

1 – كتائب الثوار داخل مدينة طرابلس لا تزال بينها تحديات تهدد بانفلات أمني خطير، فكلٌّ يريد أن يفرض وجوده، يعتقل من يريد، ويُداهم ما يريد، ولا يسمع لأحد، أليس من واجب الحكومة أن تُمَكِّن لمن له الشَّرْعِيَّة، وتكف ما سواه وتقفه عند حده حتى لا يقع الصدام؟! فإن قالت الحكومة لا أدري بما يجري، فتلك مصيبة، وإن قالت: أدري ولكني عاجزة، فعليها أن تُعلن عجزها للمجلس الانتقالي الذي كَلَّفها، وللناس، ليخرجوا لتصحيح ثورتهم ويختاروا طريقهم.

2 – لم تستطع الحكومة الفصل حتى في النزاع الواقع على مباني الفضائيات التي كانت تديرها قنوات القذافي، والآن بعد ما يقرب من شهرين من تحرير طرابلس، لا زالت القنوات معطلة، وليس للدولة قناة فضائية واحدة تتكلم باسمها، والسبب أن كل فريق يستولي على مقر لا يريد الخروج منه، فأين الحكومة؟!

3 ـ جبهة بني وليد، مَنِ المسئول عما فيها من تقصير شكا منه الثوار ولا يزالون يشكون؟ حتى إن أحد الثوار الراجع منها مجروحا في حديث منقول له على قناة ليبيا الأحرار هذا الأسبوع من ميدان الشهداء قال: إن السبب في كثرة الإصابات والقتلة فيهم أنهم لا يملكون وسائل اتصال أو مناظير، مما يسهل التفاف العدو عليهم، إذا كانت الجبهة تعاني من نقص حتى في مثل هذا الصغير من الأشياء، فكيف بغيرها؟ فما خفي ربما كان أعظم، هذه دماء يا حكومة! ولابد في نهاية الأمر من مساءلات، فالأمر تغير، وليس كما كان فيما خلا من الأيام.

ثانياالمرؤوس

ويشمل الثوار وعامة الناس، فالمصالحة مع النفس في حقهم تعني ما يلي:

1 – النصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وذلك يستلزم التخلص من التفريط والتهاون في الواجبات والمسؤوليات، وما يؤدي إلى فساد الذمم والظلم وإضاعة الحقوق، ويستلزم الانضباط في الأداء الوظيفي كَمًّا وكيفا، بما يحقق أعلى مستوى في التنمية والإنتاج، والتقيدَ في ذلك كله بالقوانين، كما يستلزم طاعة الله ورسوله وولي الأمر الذي عاهدوه وبايعوه، وجُمِعَت الكلمة حوله، والتقيد في ذلك بشرع الله وحدوده، وترك المعاصي والمخالفات، فذلك هو سبيل النصر والتوفيق.

 2 – أن يتساءل الناس كيف نصر الله الثوار وهم قلة في العدد والعُدَد، حين كان شأنهم واحد وكلمتهم سواء، وأوكلوا أمرهم إلى الله فقاتلوا جيشا عرمرما مدربا، مدججا ومجهزا بأعلى ما تستعد به للحروب الدولُ، فنصرهم الله ومكن لهم وأيَّدهم، ولم يكن لهم من السلاح شيء سوى ما يَغلبون عليه وينتزعونه من عدوهم، فعلموا حقا ورأوا رأي العين قول الله: (وما النصر إلا من عند الله).

وكيف أبطأ عنهم النصر في سرت وفي بني وليد وقدموا من الضحايا ما لم يحتسبوا ولا توقعوا ، مع كثرة عددهم ووفرة عدتهم وانكسار شوكة رأس عدوهم وفراره في الصحاري والبراري.

ألا يستدعي هذا منا التأمل ومراجعة أمرنا والنظر في أسباب ما حولنا؟

والجواب: أبطأ النصر حين تنازعوا على الغنائم وتعددت جماعاتهم حتى هددت الأمن في عاصمتهم، وصاركل فصيل ينادي بالشهرة على نفسه بعد أن كان الجميع تحت راية (الله أكبر) ونصرة الحق وجمع كلمة الوطن، فأوكلهم الله حين اختلفت كلمتهم وتنادوا بالجهة والقبيلة إلى أنفسهم، وقد قال القائل:

إذا لم يَكُن عَوْنٌ من الله للفتى              فأولُ ما يَجْني عليه اجتهادُه

فالذي أبطأ النَصرَ ارتكابُ المعاصي والمخالفات التي منها: زهو الثوار وافتخارهم بالجهات والانتماءات، وتوجههم إلى الغنائم بغير حق، والتعدي على المال الخاص والعام والحرمات، والظهور بمظهر تحقيق الذات، والإعجابُ بالانتصارات، وطلب الشهرة بالانتساب إلى الجهة والبلدة والقبيلة، فذلك كله مما أبطأ النصر، وهو أيضا مما يُبطل الأعمال، ويُفسد الجهاد، ويَذهب بالحسنات، كما يؤدي إلى النزاع والفرقة والشقاق وزعزعة الاستقرار وأمن البلاد، ويكلف المزيد من الدماء والتضحيات.

3 – على الثوار للمصالحة مع النفس وتعجيل النصر: الرجوع إلى إخلاص النية، وترك التفاخر بالجهة، وجمع الكلمة، والكف عن الغارات على الممتلكات العامة والتعدي على الأموال، والحفاظ على إقامة الصلاة في الجبهات، والحفاظ على حدود الله وترك المعاصي، كالحشيش، والخمر، والزنا.

التكبير والتحميد والتمجيد لله والتعظيم، تحول إلى رقص وغناء واختلاط مريب بين الرجال والنساء في العاصمة في ميدان الشهداء، أليس هذا بعينه ما كان يفعله القذافي في باب العزيزية كل ليلة، فدك الله بمعاصيه التليدة والجديدة حصونه، وأزال ملكه، وأدال دولته، (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) (يونس آية 102)، وقد حكم الله في كتابه ولا معقب لحكمه (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّين) (المجادلة آية 20).

  ثالثاالمصالحة مع النفس للرئيس والمرؤوس وتشمل ما يلي:

1 – أن يكون شعارنا (وَقُلِ اعْمَلُوا) (التوبة آية 105)، أي اقتران المقال بالفعال، لا الاكتفاء بتجويد الكلام وبهرجة الأقوال، كما قال تعالى في المنافقين (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (محمد آية 30)، مع خواء الأعمال (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف آية 3).

2 – توخي العدل، واحترام الشرائع والقوانين، وأكل الحلال، وإيصال الحقوق إلى الضعيف.

3 – أن نعبد الله على بصيرة، لا أن نمنع الحقوق، ونستغفل الناس، ونظلم العباد، ونعطل حوائجهم، ونتحايل على الأموال، ثم نبني بها المساجد ونكفل بها الأيتام.

 رفع ظلم عن مظلوم واحد خير عند الله من بناء مسجد ومن كفالة الأيتام وإفطار الصوام، لأن الأول فرض، والثاني نفل، وقد جاء في الحديث القدسي أن الله عز وجل يقول: (… وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ) (البخاري رقم 6137).

4 – من كف في إدارته وعمله عن الظلم، وحاد عن الجور والميل، وأنصف بين الناس وسَوَّى بينهم بالعدل، وحافظ على مال الأمة في وظيفته، وَوَضَعَه موضعه، وأوصل إلى الناس حقوقهم، هو أفضل ممن تطوع بنوافل الإحسان والصدقات مهما عظمت (فإِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا) (مسلم رقم 1827)، كما ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (إِمَامٌ عَادِل)، وفي الخبر: (عَدْل ساعة أفضل من عبادة سنة)، وفي حديث ابن عباس، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (يَوْمٌ مِنْ إِمَامٍ عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً) (السنن الكبرى للبيهقي (8/ 281).

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أيضا فيما يرويه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ بِأَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَلَا شَرَابَهُ) (البخاري رقم 1903) أي فليس لله حاجة في صومه.

فالمصالحة مع النفس في مجمل وجوهها تعني باختصار: (بَلِ الإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَة) (القيامة آية 14).

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

13 –  ذو القعدة – 1432 هـ

11 أكتوبر 2011 م

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق