ما حكم تكرار الحج والعمرة مع حاجة المسلمين بسبب الفقر والجهاد؟
هل دفع المسلم المال المخصّص لحج التطوع إلى المجاهدين أكثر أجرًا وأعظم نفعًا؟
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (4872)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
ما حكم تكرار الحج والعمرة المرّات الكثيرة، في الوقت الذي ينتهك فيه الصهاينة مقدّسات المسلمين، ويُحاصَر المجاهدون في غزة وبيت المقدس والضفة، ولا يقدرون على الدفع عن أنفسهم وفكّ أسراهم؛ للحاجة وقلة الموارد، فهل متابعة الحج والعمرة في هذه الحالة أفضل؟ أم دفع المسلم المال المخصّص لذلك إلى المجاهدين في فلسطين أكثر أجرًا وأعظم نفعًا؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فقد فرضَ الله الحج على المسلمين مرّة في العمر، وجعل ما زادَ على ذلك تطوعًا ونافلةً، لا يؤاخذُ المسلم بتركه، وكذلك العمرةُ عند مَن أوجبها؛ الزيادةُ فيها على المرة الواحدة مِن قبيل النفل، وهذا كله محل اتفاق.
ومتابعةُ التنفل بالحج والعمرة، إذا كان بذلُ المال فيهما يضعفُ ويقلّل من بذلِه في الجهادِ المطالبِ به كلُّ مسلم شرعا-كما هو الحال في العدوان الصهيوني على مقدسات المسلمين في فلسطين والقدس الشريف- فالواجبُ والأفضل لمن أراد الأجر بدلَ التطوع بالحج والعمرة أن يدفع المال المخصص لذلك إلى المجاهدين لتحرير مقدّسات وبلاد المسلمين؛ لأنّ التقربَ إلى الله سبحانه وتعالى بالواجبِ -وهو الجهاد لتحرير المقدَّسات- أحبُّ إليه من التقرّب بالمندوبات، قال تعالى: ﴿أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ أَعۡظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ﴾ [التوبة: 19-20]، وفي الحديث القدسي، يقول الله تعالى: (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ) [البخاري: 6502].
والجهادُ بالمال في وقتنا متعيّنٌ ومتأتٍّ بدفع الأموال للمجاهدين في الأقصى وغزة، للدّفاع عن أنفسهم وتخليص أسراهم، وفكّ الحصار عنهم في غزة والضفة، وقد ذكر العلماء أنّ فكَّ أسرَى المسلمين بالفداء واجبٌ، ولو أتى الفداءُ على جميع أموال المسلمين، إذا تعذّر تحريرُهم بالقتال، قال الإمام ابن العربي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيۡءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ﴾ [الأنفال: 72]، قال: “فَإِنَّ الْوِلَايَةَ مَعَهُمْ قَائِمَةٌ، وَالنُّصْرَةَ لَهُمْ وَاجِبَةٌ بِالْبَدَنِ بِأَلَّا يَبْقَى مِنَّا عَيْنٌ تَطْرِفُ حَتَّى نَخْرُجَ إلَى اسْتِنْقَاذِهِمْ، إنْ كَانَ عَدَدُنَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، أَوْ نَبْذُلَ جَمِيعَ أَمْوَالِنَا فِي اسْتِخْرَاجِهِمْ، حَتَّى لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ دِرْهَمٌ، كَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مَا حَلَّ بِالْخَلْقِ فِي تَرْكِهِمْ إخْوَانَهُمْ فِي أَسْرِ الْعَدُوِّ، وَبِأَيْدِيهِمْ خَزَائِنُ الْأَمْوَالِ وَفُضُولُ الْأَموَالِ وَالْعُدَّةُ وَالْعَدَدُ، وَالْقُوَّةُ وَالْجَلَدُ” [أحكام القرآن: 2/440].
وفي العتبية قال مالك رحمه الله: “وَيَجبُ عَلَى المُسْلِمِينَ فِدَاءُ أُسَارَاهُمْ بِمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، كَمَا عَلَيْهِمْ أَنْ يُقاتِلُوا حَتَّى يَسْتَنْقِذُوهُمْ … وَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى فِدَائِهِمْ إِلَّا بِكُلِّ مَا يَمْلِكُونَ فَذلِكَ عَلَيْهِمْ” [النوادر والزيادات: 3/301].
وعند الأحناف قال الجصاص رحمه الله بعد أن ذكر حكم وجوب مفاداة الأسرى على مَن قَبلنا من الأمم، قال: “وَهَذَا الحُكْمُ مِنْ وُجوبِ مُفَادَاةِ الأُسارَى ثَابِتٌ عَلَيْنَا”، وروى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَأَفْشُوا السَّلَامَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ [الأسير]) [أحكام القرآن: 1/47أحأح].
وقال السُّغدي رحمه الله من علماء القرن الخامس، وممن انتهت إليه رئاسة الحنفية في زمانه: “وَأَمَّا فِدَاءُ الأَسْرَى مِنْ أَيدِي الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُ عَلَى أَرْبَعَة أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا عَلَى الإِمَامِ أَنْ يَفْدِيَ أُسارَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ مِنْ بَيتِ المَالِ، وَالثَّانِي إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيتُ المَالِ وَكَانَ لِلْأَسْرَى مَالٌ يَفْدِيهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعِينَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَوِي الأَمْوَالِ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ الَّذِينَ قَاتلُوا عَنْهُم لِئَلَّا يُجْحِفَ بِهِمْ، وَالثَّالِث إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُم مَالٌ جُعِلَ فِدَاؤُهُمْ عَلَى الأَغْنِيَاءِ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ الَّذِينَ قَاتَلُوا عَنْهُم فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ الإِمَامُ فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَوِي الأَمْوَالِ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ مِنْ مَالِ الأَسْرَى أَوْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى مَا فَسّرْنَا” [النتف في الفتاوى: 2/729].
وفي حاشيتي قليوبي وعَميرة من كتب الشافعية قال عميرة رحمه الله: “فَرْعٌ: يَجِبُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ فَكُّ الْأَسْرَى” [4/216].
وقال البهوتي رحمه الله في شرح منتهى الإرادات من كتب الحنابلة: “(وَلَوْ جَاءَ عِلْجٌ) مِنْ كُفّارٍ (بِأَسِيرٍ) مُسْلِمٍ (عَلَى أَنْ يُفَادِيَ) المُسْلِمُ (بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِدْ) قَالَ أَحْمَدُ (لَمْ يُرَدَّ، وَيَفْدِيهِ المُسْلِمُونَ إِنْ لَمْ يُفْدَ مِنْ بَيْتِ المَالِ) فَهْوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ” [1/655].
وفي الإقناع: “وَيُفْدَى الأَسِيرُ المُسْلِمُ مِنْ بَيْتِ المَالِ وَإِنْ تَعَذَّرَ فَمِنْ مَالِ الُمسْلِمِينَ وَلَا يُرَدُّ إِلَى بِلَادِ العَدُوّ بِحَالٍ” [2/12].
ويتأكّد وجوب بذل المال في الجهاد في فلسطين وعون أهلها على تحرير بيت المقدس وفكّ أسراهم دون بذله في نوافل الحجّ والعمرة، لأمرين:
الأول: عندما يغلبُ على الظنّ أن الأموال التي سينفقها الحاجّ والمعتمر المتطوع بحجه وعمرته- وهي أموال كثيرة بالمليارات- يستعين بها حكّام السعودية على القتل وإثارة القلاقل في بلاد المسلمين، كما نرى ما حصل من تورّط حكام السعودية في حربهم المعلنة على اليمن، وفي دفع فواتير المرتزقة وتكاليف الحروب بالوكالة، وتدخل مخابراتها لإفساد ذات البين في ليبيا وسوريا وغيرها من البلاد الأخرى؛ وقد ذكر العلماء أنه لا يجوز للمسلم دفع المال -ولو كان واجبا عليه بحكم الشرع- إلى الحاكم الجائر إذا كان يصرفه في غير مصرفه، قال ابن الحاجب رحمه الله: “وَإِذَا كَانَ الإِمَامُ جَائِراً فِيهَا [أي الزكاة] لَمْ يجز دَفْعُهَا إِلَيْهِ طَوْعاً، قال خليل: أي: إِذَا كَانَ جَائِراً فِي تَفْرِيقِهَا أَوْ صَرْفِهَا فِي غَيْرِ مَصَارِفِهَا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ (طَوْعاً) لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التّعاوُنِ عَلَى الإِثْمِ، وَالوَاجِبُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ جُحودُهَا وَالهُروبُ بِهَا إِنْ أَمْكَنَ” [التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب: 2/ 357]، هذا المنع في دفع المال للحاكم الجائر عندما يكون الدفع واجبا كما في الزكاة، فكيف بمن يدفع ماله اختيارًا -لمن يعرف أنه يستعين به على قتل المسلمين- ولا لوم عليه بالشرع إن لم يفعل؛ لأنه في حجه وعمرته متطوع.
الثاني: عندما يكون التزاحم من المتطوعين للاعتمار والحج سببًا في منع من يريدون أداء الفريضة ممن لم يسبق لهم حـجٌّ ولا اعتمار، ولا يحالفهم الحظ في الاقتراع على الحصة المخصصة لبلادهم على مدى سنوات عديدة كما نرى الآن، فإن السلطات السعودية تجد نفسها مضطرة لتحديد العدد القادم إلى الأراضي المقدسة في المواسم؛ لشدة التزاحم وعدم قدرتها على استيعاب كل الراغبين؛ لأنّ بعض المشاعر المقدسة لا تتّسع لكل الأعداد القادمة إليها، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
عبد الرحمن بن حسين قدوع
عبد الدائم بن سليم الشوماني
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
19//ذي القعدة//1443هـ
19//06//2022م