بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (2408)
ورد إلى دار الإفتاء السؤال التالي:
أنا المواطن (ع)، حبَّس قريب لي – وهو (س) – ثلث مخلفاته؛ كما في وصيته المؤرخة في أواسط صفر 1374هـ، وحدد فيها بعض العقارات، ومن ذلك قطعتا أرض لا شجر بهما، مساحتهما (10550م2)، ثم قال: “يصنع بغلتها طعام لذاكري الله تعالى بالكلمة المشرفة، ولقارئي القرآن العظيم على عادة البلد”، وقال في غيرهما: “يجعل بها مائدة رمضان الفضيل”، وفي أخرى: “جارية لمن يتقن قراءة القرآن الكريم”، ثم قال: “مع ثلاث جنيهات كفارة لفوائت الصلاة على مذهب من يرى ذلك، مع ثلاث جنيهات أيضا ختمات، مع عشرة مرطات شعير كفارة يمين..الخ”. وجعل الوكالة على تنفيذ الوصية المذكورة لابنته (ر)، وزوجته (س)، وجعل الناظر عليهما (د)، علما بأن للموصي وصية سابقة، مؤرخة سنة 1364هـ، بحبس ثلث مخلفاته، فيها اختلاف يسير مع هذه الوصية.
توفيت (س) في الستينيات، واستمرت ابنتها (ر) في النظارة على أوقاف والدها، ولأجل مصلحة الوقف أبرمت معي أنا (ابن عمها وأخو زوجها) في سنة 1982م، عقدا بالمغارسة في قطعتي الأرض، لمدة عشرين سنة، على أن أغرسهما أشجارا مثمرة، ولي النصف.
وفي سنة 1990م تنازلت الناظرة للمغارس – الذي هو أنا – عن نظارة القطعتين موضوع المغارسة، واستمريت في القيام عليهما، ملتزمًا بشروط المغارسة والنظارة، ولم تتم المقاسمة إلا سنة 2014م، أي: بعد 32 سنة، ومع وكيل وكيل الناظرة، وهو ابنها (ل).
في سنة 1993م وكلت (ر) زوجها وكالة عامة بالتصرف في جميع أملاكها، من غير إشارة إلى نظارة الوقف، وهو قد كان وكل ابنه (ل) سنة 1985م، وكالة عامة بالتصرف في جميع أملاكه.
وعليه؛ قام وكيل الوكيل (ل) بمناقلة أرض الوقف مع أرض لعمه المغارس (صاحب السؤال)، هي خير من أرض الوقف، من حيث المساحة والموقع، وذلك سنة 2014م.
عليه؛ نأمل منكم التكرم ببيان الحكم الشرعي في المسائل التالية:
1- هل الوصية اللاحقة تلغي السابقة؟ أم أنهما يكملان بعضهما فيؤخذ بهما، ما لم يوجد تعارض؟ علما بأن الناظر والمغارس وغيرهما اعتمدوا في تصرفاتهم على المتأخرة منهما.
2- ما مدى مشروعية المغارسة المذكورة في السؤال، خاصة تحديد المغارسة بمدة عشرين سنة، وليس ببلوغ الشجر حد الإطعام؟ علما بأن الطرفين التزما بتنفيذ الاتفاق.
وإذا كانت المغارسة المذكورة باطلة، فكيف تحسب وتتم تسوية حقوق المغارس ونفقاته، التي تكبدها من سنة 1982م إلى حين بيان الحكم الشرعي؟ وما أثر تأخر القسمة عن المدة المتفق عليها في عقد المغارسة على صحة المقاسمة، وعلى ملكية المغارس لنصف الأرض؟
3- ما مدى صحة تنازل الناظرة للمغارس؟ ومدى صحة نظارة المغارس على الوقف المذكور؟
4- ما مدى صحة مناقلة أرض الوقف بعد ظهور المصلحة للوقف، باجتهاد وكيل وكيل الناظر، ومشاورة أهل الخبرة؟
علما بأنه لم يتم الرجوع في جميع التصرفات المذكورة إلى وزارة الأوقاف ولا المحاكم؛ لأنه وقف أهلي، لا ولاية لوزارة الأوقاف عليه، بحسب نصوص القانون رقم 124 لسنة 1972م بشأن الوقف.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
أولا: فبعد الاطلاع على الوصيتين تبين أنه لا تعارض بينهما، إلا أن الثانية أكثر تفصيلا؛ فيؤخذ بها، ولا يلتفت إلى الأولى. [انظر:عقد الجواهر الثمينة لابن شاس:1233/3].
ثانيا: المغارسة مع الوقف مما اختلف فيه أهل العلم، وجرى العمل في المذهب بجواز المغارسة إذا
دعت إليها حاجة شديدة، وتحققت معها المصلحة للوقف [انظر: شرح التحفة:127/2، والمعيارالمعرب:436/7].
ولا يدخل في القسمة إلا ما غرس وأثمر، لا ما بقي بورا لم يستصلح؛ كما قال ابن عبد البر رحمه الله. [الكافي:267/2].
ومن شروط صحة المغارسة أن يكون عمل الغارس محددا بالإثمار، لا بالأجل، فقد نقل القرافي عن صاحب النوادر رحمهما الله قوله: “وتمتنع [أي: المغارسة] إلى أجل؛ لأنها في معنى الجعل؛ بل للإثمار أو قبله” [الذخيرة:142/6]، فإذا لم يطلع عليها إلا بعد الغرس والعمل، وقد جعل فيها للعامل نصف الأرض والشجر – كما ورد في السؤال – فإنها تُخَرَّج على الشراء الفاسد الذي فُوِّت بالغرس، ويكون للمغارس نصف الأرض وعليه قيمتها يوم أخذها جرداء، وله على الوقف قيمة ما أنفقه، وأجرة عمله في نصف الأرض التي بقيت للوقف، طيلة هذه المدة؛ نقل التسولي عن ابن القاسم رحمهما الله: “أنها تمضي؛ لأنها بيع فاسد فاتت بالفراغ وبلوغ الإطعام، ويكون على العامل نصف قيمة الأرض يوم قبضها براحًا، وله على رب الأرض قيمة عمله وغراسه في النصف الذي صار إليه، إلى أن بلغ، وله أجرته فيه أيضًا، من يومئذ إلى يوم الحكم” [شرح التحفة:329/2]، ويرجع في تقدير ذلك إلى العرف الجاري، وحكم أهل الخبرة في تلك الجهة.
هذا مَا للغارس إنْ غرس وأثمر غرسه، وإن لم يغرس فلا شيء له.
ثالثا: الناظر الذي عيّنه الواقف للقيام بشؤون الأحباس؛ يجب عليه القيام بالنظارة كما نص المحبس، وليس للناظر أن يعهد لغيره بالنظارة، إلا إن جعل الواقف له الحق في ذلك.
والآن بعد وفاة الوكيل والناظر، فالحق في اختيار ناظر للوقف هو للقاضي أو وزارة الأوقاف؛ قال الصاوي رحمه الله: “إنْ شَرَطَ الواقف أن فلانًا ناظر وقفه، فيجب اتباع شرطه، ولا يجوز العدول عنه لغيره، وليس له الإيصاء بالنظر لغيره إلا أن يجعل له الواقف ذلك، و حيث لم يكن له إيصاء به، فإن مات الناظر والواقف حي جعل النظر لمن شاء، و إن كان ميتًا فوصيه إن وجد، وإلا فالحاكم” [بلغة السالك (24/4)].
رابعا: لا يجوز بيع أرض الوقف، ولا مناقلتها، وإن وجدت المصلحة في ذلك، ما دام بالإمكان الاستفادة منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: (تصدق بأصله، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن ينفق ثمره) [البخاري:2764]، وقال المواق رحمه الله: “لا يجوز إبدال الحبس ولا بيعه، ويترك على ما كان عليه في السنين الماضية؛ إعمالًا لقصد المحبس، واتباعًا لشرطه، فلا يجوز بيعه وإن ظهرت المصلحة في بيعه؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذن” [المعيار:134/7].
عليه؛ فالمناقلة التي حصلتْ في يوم 2014/5/22م، يجب ردها ما لم تفت بأحد مفوِّتات البيع، وكذلك لا حق لابن الناظرة في تولي أمر الوقف؛ لأنه اعتمد في ذلك على وكالة عامة من أبيه، وأبوه له وكالة عامة من زوجته الناظرة على جميع أملاكها، وليس من ذلك الوقف، والحق في اختيار من يتولى شؤون الوقف إلى القاضي أو وزارة الأوقاف كما تقدم، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
أحمد ميلاد قدور
محمد الهادي كريدان
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
8/شعبان/1436هـ
26/مايو/2015م