في مستهل الشهر المبارك (12) حقيقة للتذكير والعبرة
بسم الله الرحمن الرحيم
في مستهل الشهر المبارك
(12) حقيقة للتذكير والعبرة
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
تهنئُ دارُ الإفتاءِ المواطنينَ الكرامَ كافةً، والأمةَ الإسلاميةَ قاطبةً؛ بحلول شهر رمضانَ المباركَ، شهرِ القرآن، شهر الصيامِ والقيام، شهر المغفرة والرضوانِ والعتقِ منَ النيرانِ، شهر الانتصارات العظيمة الباهرةِ في تاريخِ المسلمينَ، شهر معركة بدر وفتح مكة، وفتح الأندلس، وعين جَالُوت، وشهر انتصاراتِ هذه الثورة المباركةِ في أيامها الأولى، وفي فجرِها.
ندعو اللهَ العظيم الكريم؛ أنْ يجعلَ قدوم هذا الشهرِ قدومَ خير وبركةٍ، علينا وعلى المسلمينَ.
ولا يفوتُ دار الإفتاءِ بهذه المناسبةِ، أن تُذكرَ بمجموعةِ حقائقَ؛ للعبرةِ والتذكير، فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين:
1- دارُ الإفتاء موقفُها ممّا يجري لم يتغيرْ، ولم يتبدلْ؛ هي مع ثوابتِ الوطنِ والدينِ، ليست ضدَّ أحدٍ بعينهِ، ولا مع أحد بعينهِ، فمنْ كان مع الحقّ كانت معه، تلتزمُ الحقّ وتتبعهُ، وتدورُ معه حيثُما دارَ، لا تخافُ فيه لومةَ لائمٍ، ولا يمنعُها موقفٌ اتخذته بالأمس، راجعتْ فيه نفسَها، وهُديتْ فيهِ إلى رُشدِها؛ أن ترجع إلى الحق، فإنّ الرجوعَ إلى الحقِّ خيرٌ مِن التمادِي على الباطلِ؛ كما قال عمر رضي الله عنه، يقول الله تعالى: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)
.
2- المعركةُ في ليبيا ضدَّ الثورة وأهدافها، هي معركةٌ واحدةٌ، أمُّها وأصلُها في بنغازِي، وفروعُها تتنقل في أطرافِ البلادِ.
معركةُ سرت في قتال الخوارجِ المارقينَ هي أحد ميادينها ؛ لا ينبغي أن تتوقفَ حتّى يتمَّ استئصالُ هذا الداءِ الخبيثِ مِن سرت؛ كما استُؤصِلَ مِن مدينة درنة، وقبلَها في صبراتة، نسأل الله أن يتقبلَ مَن مات من أبناء مصراتة، والمدن المجاورة، في الشهداءِ الأبرارِ، وأن يشفيَ الجرحى، ويعوّض أهليهم فيهم خيرًا، قال صلى الله عليه وسلم في الخوارجِ، إنهم: ( شر خلق الله، طُوبَى لِمَن قَتَلَهمْ أو قَتَلُوه).
ولا ينسَى مَن يبذُلونَ أنفسَهم لله ونصرة دينهِ، مِن الثوارِ في مصراتةَ وفي غيرها من المدن؛ أنّ المعركةَ التي يتحدد معها مصيرُ ليبيا بعد سرت، هي معركةُ بنغازي، فلا يترددوا في اللحاق بها، وليحذروا المخذلين، فلهم مع المخذلين في معركة الوطية تجربة.
3– المعركة الكبرى مع أعداء الثورة في بنغازي، هي التي نقلت إلينا المعركة إلى سرت.
معركة بنغازي تحالفَ فيها كلُّ أعداءِ الدين والوطنِ، في مواجهةِ قلةٍ مؤمنةٍ صابرةٍ، من ثوار بنغازي، الذين على الرّغم من أنّهم أعلنوا تبرُّؤَهم مِن الغلاة والتكفيريينَ في بيان واضح مصور، فإنّ عدوَّهم حفتر لا يزالُ مُصرًّا على أنّه يقاتِلُ الإرهابيّينَ؛، ليقبضَ الثمنَ ممن يدير لهم المعركة بالوكالة، ويكتسبَ التأييدَ.
أقول ليس لهذه القلة الصابرة مِن الزادِ والعتادِ إلّا القليلُ، زادُها الغضبَةَ للحقّ، والنصرة لدينِ الله وأهلِه، والدفاع عن حُرُماتِ المسلمينَ وأموالِهم وأعراضِهم.
4 – سرايا الثوار للدفاعِ عن مدينة بنغازي، التي تشكلَتْ هذه الأيام، معلنةً نصرتها لأهل بنغازي ونصرتها لمجلس ثوار أجدابيا وثوار بنغازي، وأنّهم لا ينتمون إلى أي حزبٍ أو توجهٍ، وإنّما غايتُهم نصرةُ أهل مدينتهم، الذين هُجِّروا وأحرقتْ بيوتُهم، وغدرَ بعلمائِهم، هذه السرايَا التي تشكلت، نسأل الله أن يوفقهم ويكثر من أمثالهم، حقٌّ على كلِّ أهلِ بنغازي، وأهلِ ليبيا؛ أنْ ينضمُّوا إليهم، ويناصروهم، ولا يخذلوهُم؛ قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)، وقال تعالى: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ).
فالقتال في بنغازي هو جهاد دفع، لردِّ الصائل الباغِي، الذي أخرجَ أهلَ بنغازي مِن ديارهم، لا يجوزُ لقادرٍ أن يتخلّى عنه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهوَ شَهيدٌ، ومن قتل دون ماله فهو شهيد).
5 – حفتر لا يزالُ – بعد عامينِ مِن هذا الدمار – يرددُ نفس الشعارِ؛ الجيشُ والشرطة ومكافحة الإرهابِ !!فهل رأيتم له بعد عامينِ – يا أهل بنغازي – جيشًا أو شرطةً؟! وهل رأيتموهُ قطّ قصفَ بطائراتهِ (الإرهابَ) في منطقة الفتائح عندما كان ثوارُ درنة يلاحقونَ (الإرهابيين)؟!
ما رأيناه إلّا يحاصرُ ثوارَ درنة الأبطال، ويقطع الإمداد عنهم، يحاصر العقيد بو غفير وكتيبة حسن الجابر، ويقصف درنة بعد أن طرد منها (الإرهاب) فمتى يُدركُ أهلُنا في الشرقِ ما يُدبَّرُ لهم ؟!
6 – قالت دارُ الافتاءِ لهذه الحكومةِ، من أول يومٍ قدمت فيه: إذا قبلتُم بالملاحظاتِ الخَمس، التي أبداها العلماءُ في مجلس البحوثِ على مسودة الاتفاق؛ فسنتقدمُكم، ولا نُبالِي؛ لأننَا كما قال الله تعالى: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ)، أمّا بدونِ ذلك؛ فلن نفرّط في وطننا، ولا ثوابتِ شريعتنا، وإنْ أوذِينا، وحُرمنا.
7 – ليس في مصلحة أحدٍ أن يستمرّ تجميدُ المرتباتِ، في هذا الشهرِ الكريم، على مستوى ليبيا للشهر الثالث على التوالي.
أما شيوخ وعلماء دار الإفتاء، الذين فرغوا أنفسَهم لعمل شاق طولَ أوقاتِ عملهم؛ لتصحيحِ أعمال الناس وعباداتِهم، فيحزننِي أن أقولَ إنّ مرتباتِهم مجمدةٌ للشهر السادسِ على التوالي !
8 – مِن ثوابتِ أهداف هذه الثورةِ المباركة، التي مِن أجلِها بذل الناسُ أعزّ ما يملكونَ، وقدّموا الشهداء؛ إقامةُ الدينِ وتحكيمُ شرعِ الله، الذي هو العدل والإحسان والرحمة، وتطبيقُه على الفهمِ السويّ، القائم على الاعتدالِ والوسطية، دون إفراطٍ ولا تفريطٍ، وقد تحققَ لنا في هذا ما كان حلْمًا بعيد المنال، وصارت قوانيننا كلها معدلةً ومحكومةً بشرع الله، وأقرت في تعديلٍ دستوري، قلتُ مرارًا إنه أعظمُ قرارات المؤتمرِ الوطني العام على الإطلاقِ، لقد نشر التعديل في المدونات، وفي الجريدة الرسمية، فما الذي يمنعُ من العمل والالتزامِ به لقومٍ مؤمنين؟!
هذا المكسبُ الذي تحقق، لا يجوز التفريط فيه، ونصر الله وتمكينه للمؤمنين لا يكون إلّا بنصرة دينه، وإقامة شرعهِ؛ (إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ويثبت أقدامكم).
9– هل يليق بعد أن تحقق لنا هذا الأمل العظيم أن يخرج علينا من يقول: نرفض أن نكون محكومين بالدِّين، أو من يقول: لا نريد شرع الله؟!!
أو أن يخرج علينا مكتب النائب العام، ويقول: “إن المحكمة العليا أصدرت قرارا بما أسموه الإفراج المؤقت، عمن صدرت ضدهم أحكام بعقوبات على جرائم“، ويضيف: “إن القانون يسمح بذلك“.
نحن الآن قوانيننا كلها عدلت بشرع الله، فهل يسمح شرع الله بهذا الإفراج، بعد صدور الحكم؟!
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تَعَافُوا الحدود فيما بينَكُم، فما بلغني من حد فقد وجب).
10– من أهداف الثورة، التي بذلت من أجلها أرواح الشهداء؛ عدم السماح بالرجوع إلى عهد القمع والاستبداد، والظلم وتكميم الأفواه، وزوَّار الفجر، وملاحقة الأمن الداخلي للمصلين، ومداهمتهم في المساجد.
لكن للأسف ها نحن نرى قيادات كتائب القذافي والأمن الداخلي وقيادات سبعة أبريل وزوار الفجر، تتجمع من جديد، ليس فقط في المنطقة الشرقية عند حفتر، بل في العاصمة؛ للتخطيط والانقلابات، يستقبلهم الثوار ويحرسونهم، فهل بعد هذا من خذلان؟!
أين مواثيق الشرف وعهود الله، التي أخذها الثوار على أنفسهم؛ ألّا يخونوا دماءَ إخوانهم من الشهداء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ؛ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ… الحديث).
11 – من ثوابت أهداف الثورة المباركة؛ الحفاظ على وحدة الوطن، لكن ها هي العنصرية المقيتة تمزق الوطن، بتعدد الحكومات والجيوش المزعومة، والبرلمانات ورئاسات الأركان، ومحافظي المصرف المركزي، وامتحانات للطلاب يفترض أنها موحدة، تبدأ من غات إلى الكفرة إلى الشرق إلى الغرب، وآخر مظاهر هذا التمزق أن يطبع المصرفُ المركزي في البيضاء عملةً؛ لحل أزمة السيولة في زعمهم!
ليس بعد هذا العبث بالاقتصاد والفساد في الأرض من فساد.
وهذا ناتج عن أمر واحد في ليبيا، لا يختلف عليه اثنان؛ هو العمل بمبدأ وضع القوانين تحت الأقدام، وأول من يجرئ الناس على هذا المبدأ مَن يقتحمون المقراتِ، ويجمدونَ الأموال قبل أن يُمنحوا الشرعية حتى بمقتضى القانون الذي ارتضوه !!
12– المصالحةُ الوطنيةُ وحقنُ الدماءِ، مطلبٌ لكلّ مسلمٍ، لكن المصالحةَ لها شروطٌ، لابدّ أن تتحقّقَ؛ وإلا كانت شرًّا ووَبَالًا على أهلِها.
وحقنُ الدماءِ له أحكام في الشرع، الحرصُ والحفاظُ عليها في مواطِنها مِن مقاصدِ الشرعِ الكليةِ، وإهدارُها وسفكُها في مواطن أخرَى أيضًا مِن مقاصدِ الشرعِ الكليةِ، تهدر وتحفظ ليُحفَظَ الدّينُ، ولتُحقَن دماءُ الأبرياءِ، ولهذَا شرَعَ اللهُ الجهادَ، وفرَضَ القصاصَ، وأمرَ بقتالِ البُغاة، وقالَ في مدحِ عبادِ الرحمنِ: (ولَا يَقْتُلُونَ النّفسَ التِي حرّمَ اللهُ إلَّا بِالحَقِّ).
فإذا وُضعَ أحدُ الموْطنين – الحقنُ أو السّفكُ – موضعَ الآخَرِ؛ اختَلَّ قانونُ الشرعِ، وانتُهكَتْ حُرمةُ الدِّينِ.
سؤال كبير يٌطرح، مَن يتحمّلَ ما يفعلُهُ قطّاعُ الطّرقِ مِن المجرمينَ في الطريقِ الساحِليّ، منذُ شهورٍ بعد أن طردهم الثوار منه؟
يتحمّلُهُ مَن رَدّهم من فصائل الثوار ومكنهم من المنطقة بعد أن طردوا منها، هم ومن كان وراءهم، باسمِ المصالحةِ وحقن الدماء، فهل حقنت بهذه المصالحة الكاذبة الدماء فعلا؟
أم قطعت الرؤوس وعلقت على قارعة الطريق كأبشع ما يكون الإجرام؟
هذه الدماء في رقاب من ردّهم ومكّنهم، وبالخصوص بعد أن جاؤوا مستفتين، وعرفوا أن المصالحة العامة ليست من حقهم، وأنهم إن فعلوا كانوا معتدين، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (مَن دَعَا إلى ضلالةٍ، كانَ عليه مثلُ أوزارِ مَن دعاهُم، لَا ينقصُ ذلكَ مِن أوزارِهم شيئًا).
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آ له وصحبه وسلم.
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الأحد 29 شعبان 1437 هـ
الموافق 5 يونيو 2016 م