الجَرح بما ليس بجُرح
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(التجريح بترك الكلام في التوحيد!)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن رأس الأمر التوحيد، وهذا ما لا اختلاف عليه في دين الإسلام، دين الأنبياء جميعا (ً وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).
لا يختلف اثنان على هذا، كما لا يختلف اثنان على أن أمر الإسلام في هذا البلد وفي غيره من البلاد – به قضايا أخرى يومية شائكة، وربما خطيرة، تستحق العناية، حتى إذا ما أقيمت على الحق، واستقرت على الصواب، كانت داعمة وخادمة للتوحيد، وللتمكين لعبادة الله ودينه.
مع هذه الحاجة الواضحة للعناية بحال المسلمين وقضاياهم، فإن هناك جماعةً تتظاهر بالحرص على التوحيد، وتتعقب كل من له اهتمام بالكلام في قضايا الأمة وشأنها العام، وتعيب عليه وتُجرحه إن كان من أهل العلم: بأنه مفرط في قضايا التوحيد! لتسقط عدالته في نظرها، ويَلقى هذا صدى لدى العامة وطلبة العلم المبتدئين، وقد ينتصرون له، لما للشعار – وهو التوحيد – من نفوذ على عاطفة المسلم.
ثم تكون النتيجة لهذا السلاح العاطفي الفتاك على صغار الطلاب – تصنيف المتكلم في هذه القضايا العامة بأنه مجروح، لتهاونه في قضايا التوحيد، فلا يُسمع له بعد ذلك، وينفر عنه !!!
فهل حقا هذا هو الإسلام؟! لا شأن له بغير التوحيد!!
لا بحفظ الدماء، ولا بحفظ الأعراض، ولا الأموال، ولا إقامة العدل، ولا الأمن، ولا الحكم، ولا السياسة، ولا الصناعة، ولا الاقتصاد، ولا التجارة، ولا الزراعة، ولا التعليم، ولا الصحة، وأن كل من يتكلم في هذا أو في غيره من قضايا الأمة – وما أكثرها هذه الأيام – هو مفرط، بتركه الكلام في التوحيد، وأن من حق هذه الجماعة أن تأتيه بالرد مُدَويا، وتسرد عليه كل آيات القرآن التي نزلت بمكة تخاطب المشركين!
لو كان هذا الفهم للتوحيد صحيحا، للزم منه تعطيل أكثر آيات القرآن الكريم، فآيات التوحيد في القرآن لا تزيد عن سدس القرآن، فمادا نصنع بباقي القرآن؟! وللزم أيضا تعطيل أكثر من ذلك بكثير من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
لقد بينت لنا السنة منزلة التوحيد، وأنه أعلى شعب الإيمان، لكنه شعبة من بضع وسبعين شعبة، فهل من يتكلم في باقي الشعب البضع والسبعين؛ من إماطة الأذى عن الطريق فما فوقها – مفرط في التوحيد؟!!
اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بقضايا الأمة لا يقل عن اهتمامه بالتوحيد، فقد كان كثيرا ما يُسأل عن حقيقة الإسلام، أو عن أفضل الإسلام، فيجيب السائل مرة: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وتقيم الصلاة …)، ويجيب آخر: (أن يسلم المسلمون من لسانك ويدك) – وذلك بعد أن استقر الإسلام في قلوب الناس وعُرِفت أركانه وفرائضه – ويجيب ثالثا: (أن تطعم الطعام وتقرئ السلام)، ويقول للرابع: (الهجرة)، ولوفد عبد القيس: (أن تؤدوا الخمس، وأنهاكم عن الدُّبَّاء، والنَّقير، والحَنْتَم والمُزَفَّت).
تَنَوَّعَ جوابُه صلى الله عليه وسلم وسؤال الجميع واحد عن حقيقة الإسلام، فهل تُراه عندما أجاب بأنه الهجرة، أو إطعام الطعام، وإقراء السلام، أو حفظ اللسان – قَصَّر في التوحيد؟!! حاشاه بأبي هو وأمي.
أئمة الجرح والتعديل – من السلف – لم يُنقل عن واحد منهم تجريح بقلة كلامه في التوحيد.
البخاري كتابه (الصحيح) به ما يقرب من مائة كتاب، ختمها بكتاب التوحيد، فهو واحد من سبعة وتسعين كتابا اشتمل عليها الصحيح، وباقيها في الأحكام والرقائق والفضائل والسير، وغير ذلك.
الإمام أحمد ذكر في المسند ما يقرب من ثلاثين ألف حديث، وألف (أصول السنة) في ورقات قليلة!
ليس في (الموطأ) لمالك، ولا في (الأم) ولا (الرسالة) للشافعي باب معنون بكتاب التوحيد، فماذا نقول عنهم ؟! هل تُراهم بهذا مجروحين؟!!
فلم الجُرح بما ليس بجُرح!
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
11 رمضان 1434 هـ
20 يوليو 2013 م