في ذكرى التحرير .
لاشك أن ذكرى التحرير ذكرى عزيزةٌ غالية على النفوس، التحريرُ كان أمنية وتحققت، تحققتْ بفضل الله ومنته وتأييده وتوفيقه أولًا، ثم بفضل الشجعان الأبطال الرجال مِن الثوار، في المدن الليبية المختلفة، الذين واجهوا آلة الموت والبطش المدمرة، بصدور عارية، في حرب ضَروسٍ غيرِ متكافئة، لم تنكسر لهم إرادةٌ، ولم تَلِن لهم قناةٌ، فكانوا وَقودَ النصر والتحرير، على مدى ثمانيةِ أشهرٍ مِن القتال المرير، حتى تحقق لهم بفضل الله ما أرادوا.
هؤلاء الكرامُ الأبطالُ، النسورُ الميامينُ، الذين خاضوا الجبهاتِ، وقدموا الأرواحَ، ولم يولُّوا الأدبارَ، منذ انطلاق الثورة في أيامها الأولى، إلى أن تحقق النصر، علينا أن نكرمَهم ونقدرَهم، ونجعلَهم تيجانَ رؤوسنا، ولا نسيئُ إليهم، فنجعلهم سواءً كمَن أثرى بعد الثورة، وانضمَّ إليها بعد أن تحقق النصر، فجمع الغنائمَ باللصوصية، وصار مِن أصحاب الملايين، التسويةُ بين هؤلاء وهؤلاء، جحودٌ وظلم وخيانةٌ للوطن.
هي فرحةُ تحرُّرٍ وانعتاق، من الاستبداد والظلم والقهر وحكم الفرد، ارتُهنت فيه البلد على مدى عقود، بمزاجِ حاكم غريب الأطوار، متقلب النزوات والأدوار، في قرارات بلد مصيرية، كان لا يكلفه اتخاذها سوى إشارةٍ، أو جرةِ قلمٍ؛ فتصيرُ دستورا لا يجرُؤُ أحدٌ أن يتكلمَ فيه، فقرارٌ مثلُ منعِ الليبيين جميعًا مِن السفر، لمدة عام أو أعوام مثلا، أو قرارٌ بهدمِ بيوتهم، أو مصادرةِ أموالهم وعقاراتهم، أو الزجِّ بهم شبابا وشيوخا في حرب طاحنة مع جيرانهم، قد تمتد أعواما، أو قرارٌ بإلغاء التاريخ الذي يؤرخ به الناس أيامَهم، أو استبدالِهِ واختراعِ تاريخٍ آخرَ لا يعرفُه العالَم، أو إلغاءُ تدريس اللغاتِ الأجنبية، أو الثقافة الإسلامية والسنة النبوية، وحظرُها في المدارس والمعاهد والجامعات والمساجد، أو قرارٌ بحرقِ كلِّ الكتبِ الإسلامية في الميادين، ونهبِ ومداهمةِ المكتبات الخاصة والعامة، أو منعُ التجارة بجميع أنواعها، وقفلُ الأسواق والمحلات، أو نصبُ أعواد المشانقِ في الميادين والجامعات، كلُّ هذا ونحوِه مِن الأمور الشنيعة الخطيرة، كان لا يكلِّف سوى إشارةٍ أو حديثٍ عابرٍ، تُحوِّله البطانةُ إلى مطلبٍ (جماهيريٍّ مقدسٍ)، يتحلقون حوله عند سماعه، يرقصون ويهتفون حتى تُبَح حناجرُهم: (علمنا يا … علمنا …)، وترى مِن بين الراقصين من يُسمَّون (أُمناء)؛ الوزير ورئيس الوزراء والأستاذ والدكتور ورئيس الجامعة ورئيس مجلس الإدارة، وهلم جرّا، وترى فيهم من لو رأيته في غير ذلك الموقف (البهلواني)، لكان جديرا بالاحترام.
يُنغِّص هذه الذكرى، العزيزةَ المجيدةَ، أوضاعٌ أمنيةٌ متردية، وفسادٌ إداري ومالي عارمٌ متفشٍّ، أتَى على القليل الباقي من خدمات الدولة، في الصحة والتعليم والمرافق العامة، فدمره، وقاد البلد إلى ماهي فيه، من قتل وخطف وتفجيرات، وإلى اختطاف النفط، وقفل موانيه، على مدى شهرين تقريبا، وأدى إلى وإلى وإلى …
والمحير في هذا الفساد وجرائمه أكثر، أنه فساد وجرائم مستمرة، الدولة عاجزة حولها تتفرج، ولا تزالُ جرائمه تُسجل ضد مجهول.
تقبل الله مَن مات لتحقيق هذا النصر، في الشهداء الأبرار، وعوَّض المعاقين والجرحى، ومَن أُوذوا في الجبهات خير الجزاء.
وعلينا أن نكون أوفياء للمبادئ التي ماتوا من أجلها، فالوفاء لهم بالحفاظ على أهداف الثورة – وعلى رأسها إقامة الدين، ووحدةُ الوطن، ومحاربة الفساد – واجبٌ وطني وأخلاقي وشرعي، ليس مِن المروءَة ولا مِن الدين الإخلالُ به.
كما أنه علينا أن نُري الله من أنفسنا خيرا، فنشكر الله على هذا النصر، ونقيم شرعه، ونكف عن عصيانه وتعدي حدوده، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
الصادق بن عبدالرحمن الغرياني
19/ذوالحجة/1434هـ
24/ 10/ 2013م