(المَصْلحَةُ المَوهُومَةُ)
(المَصْلحَةُ المَوهُومَةُ)
منتخب من المنتخب (3)
( المَصْلحَةُ المَوهُومَةُ )
مِن حقائقِ الإسلام القاطعة التي لا اختلافَ عليها؛ أنّ كلَّ دينٍ على وجهِ الأرضِ غيرِ دينِ الإسلامِ لا يؤمِنُ أتباعُهُ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبأن رسالته للناس كافة، هو دينُ إلحادٍ وكفرٍ، باطلٌ مردودٌ، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
وأهلُ الكتابِ كغيرهم ممَّنْ يؤمنونَ ببعضِ أنبياءِ اللهِ ويكفرونَ ببعضٍ، ولا يؤمنونَ برسولِ الإسلامِ، هم كغيرهم كفارا، سمَّاهم اللهُ كفارًا.
قال تعالى: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنـزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ)، وهم مِن أهلِ النار إنْ لم يتداركُوا أمرَهم فيعتنقوا الإسلامَ، ويؤْمِنوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبجميعِ أنبياءِ الله عليهم الصلاة والسلام كما أمر القرآن: (قُولُوا آمَنَّا بِالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ)، (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسُ محمد بِيَدِهِ؛ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ).
فالدينُ بعد بعثةِ محمد صلى الله عليه وسلم هو الإسلام لا غير؛ (إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الْإِسْلَامُ) فليس هناك شيءٌ اسمه تصالح ولا تقارب بين الأديانِ، هناكَ تصالحٌ بين الأمم في عالم السياسةِ والعلاقاتِ الدوليةِ في أمورِ الدنيا، كما قال تعالى : (لَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
أمَّا الأديانُ فليس فيها إلَّا حق وباطلٌ، كفرٌ وإيمانٌ؛ لأنّ التصالحَ فيها معناهُ أنْ يتركَ كلُّ طرفٍ للآخرِ شيئًا ممَّا يختلفان فيه، والمتروكُ مِن المسلمِ في تصالحِ الأديانِ هو دينُه، فهلْ يحلُّ للمسلمِ أنْ يتركَ شيئًا مِن دينِهِ باسمِ التصالح والتسامح؟!
مَن يتكلمونَ عن الحوارِ والتصالح بينَ الأديانِ، يقولونَ إنّهم يسعونَ في ذلكَ من أجل مصلحةٍ عظمى تجنب العالم المصادماتِ والحروبَ، ويعم معها السلام العالمي؛ لأجل خير البشرية والتعايش السلمي ودفعِ الضررِ عن المسلمينَ، وعن غيرِهم مِن أُممِ الأرضِ.
لقد رغبَ المشركونَ قديمًا في مثلِ هذا التصالحِ الديني كما يسمى اليوم، وعرضوا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنْ يقبلُوا هم دينه، ويؤمنوا به، على أنْ يقبل هوَ دينهم ويذكرَ آلهتَهم بخيرٍ، فيعيشُوا في سلامٍ، ويسودَ الوئامُ، ويتجنَّبوا الحروبَ، هَمَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يفعلَ، كمَا في صحيحِ مسلم؛ بأنْ يُلاينَهم ويتصالحَ معهم، ويعطيَهم ما طلبوا؛ لأجلِ مصلحةِ الدّعوةِ، ولحالة الضعف التي كان عليها المسلمون، وكفِّ أذى المشركين عنهم، فعصمَهُ اللهُ تعالَى مِن ذلك، وأنزل في عصمتهِ: (وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)، وتتابع النهيُ في القرآن عن هذا التصالح بصورة قاطعة، يؤكد بعضه بعضا، قال تعالى: (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ)، وقال: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)، وقال: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)، وقال: (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وقال: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، فسمى الله هذا التصالح مداهنةً، أي ملاينةً وتدرجًا في قَبولِ الكُفرِ، وهذا هو اسمه الحقيقي!
وطلبُ المشركينَ قديمًا هو عينُهُ يتكررُ الآنَ، فيمَا يُسَمّى حوارَ الأديانِ، لكن الذينَ يدعُونَ إليهِ اليومَ هم بعضُ حكّامِ المسلمينَ، وليس المشركينَ كمَا كانَ بالأمسِ!
فقد رأينا في الأيام الماضية وفود الفاتيكانِ تُدعى إلى السعودية والإماراتِ، فيما سمَّوه مصالحةً بينَ الأديانِ، فما يجري هو المداهنة بعينها، وهو بلغة العصر تطبيع مع الكفر، على غرارِ التطبيعِ السياسيّ الذي تسعَى فيه عدد من الدول العربية على رأسها السعودية والإمارات، سعيا حثيثًا للاعترافِ بالكيانِ الصهيونيّ في فلسطين، والتنكُّر لأهلِها.
ولا عجبَ أنْ يتكلم بعض الحكامُ بمصالحةِ الأديانِ، التي هذا مغزاها وفحواهَا، فقد عهدْنا منهم المشاقَّةَ لله ولرسوله وللمؤمنينَ، ولكن العجب أنْ يحضُرَ مجلسَ البابا – المدعوّ إلى الإمارات للمصالحةِ وإقامةِ القُداس – مَن لا ينقصُهُ العلم الشرعيُّ ولا المعرفة بأحكامه مِن العلماءِ، الذين كان المؤمل منهم أن يُبلّغُوا البابَا ومَن معهُ ما بلّغَ بهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سلفَه، إمبراطور الرومِ: (فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ الله أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لا نَعْبُدَ إِلا الله وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}).
وذلك على نحو ما كتب به الشيخ علي الصلابيّ – بارك الله فيه – في خطابِهِ المفتوحِ موجهًا إلى البابا أثناء زيارته إلى الإمارات، يدعُوهُ فيه إلى الإيمانِ بالقرآنِ، وبما جاء فيه عن عيسى عليه الصلاة والسلام وعن أمّه؛ لينقذَ البابا نفسَه وينقذَ أتباعَه من النار.
فكانَ في ذلك صائبًا موفَّقًا، وهذا هو البلاغُ الواجبُ على أهل العلم لمَن أرادَ أنْ يبرئَ ذمتَهُ، لا مُباركة الزيارةِ والاحتفاء بها، والشّرعَنة بحضورهم لبناء كنيسة في جزيرة العرب!
فالمصلحة المرجوَّةُ ممَّا يسمَّى تصالحَ الأديانِ مصلحةٌ موهومَةٌ، ألغاهَا القرآنُ، وسمّاها ركونًا (وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا).
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
2 رجب 1440 هـ
الموافق 9 مارس 2019 م