الاستشعار عن بُعد
الاستشعار عن بُعد
وثبوت الشهر بولادة الهلال بعد الغروب
أهل العلم الشرعي في إثبات الشهر القمري بين قولين، لا ثالث لهما:
الأول: قول جمهور أهل العلم في المذاهب الإسلامية المتعددة، أن الصوم يدخل وقته برؤية الهلال، لا بالعلم بولادته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم 🙁 صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ …)، وقد أوضحت ذلك روايات أخرى للحديث وضوحا لا يقبل الاحتمال، منها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة “: ( إِذَا رَأَيْتُم الهِلالَ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا )، ومنها قوله * في حديث ابن عمر “: ( لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوا الهِلالَ وَلا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ )، وبهذا النهي في الرواية الثالثة يسقط قول القائل عن الرواية الأولى ( صوموا لرؤيته..): إنها لا تدل على إلغاء الحساب، إلا على قاعدة أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وهي ليست قاعدة متفقا عليها بين الأصوليين، ويسقط قوله أيضا عن الرواية الثانية ( إذا رأيتم الهلال…): إنها دلت على نفي الحساب بمفهوم مخالفة الشرط، وحجيته إذا توفر شرط إعماله وهو ألا يكون ذكره خرج مخرج الغالب مختلف فيها أيضا، فإن لم يتوفر شرطه فهو ملغى بالاتفاق، قالوا: وهنا قد خرج مخرج الغالب، فلا حجة فيه.
أما الرواية الأخيرة ( لا تصوموا حتى تروا الهلال …) فقد قطعت جهيزة كل خطيب، وسدت الطريق عن كل تشغيب، فإنها قد دلت بالنهي ( لا تصوموا…) على تحريم الصوم والفطر قبل رؤية الهلال .
وشرط ثبوت الشهر بالرؤية أن تكون ولادة الهلال (الاقتران) قبل الغروب للَيلة الرؤية بوقت كاف يسمح ببقاء الهلال في الأفق زمنا بعد غروب الشمس، أما لو وقع الاقتران بعد غروب الشمس، أو وقع قبل غروب الشمس ولكن الهلال يغرب قبل الشمس ولا يبقى بعدها، فلا مكان للرؤية، ولا لثبوت الشهر بها، وتلك الليلة واليوم الذي يليها متممان للشهر السابق وليسا من الشهر الجديد، حتى لو افترضنا وجود الهلال في الأفق من النهار الذي يلي تلك الليلة، فإنهم قالوا: إذا رئي الهلال نهارا مع نُدرته، فإما أن يكون من الشهر الأول، وإما أن يكون بعد مضي أيام من الشهر الجديد، وحينها يكون الهلال كبيرا وتتأتى رؤيته بالليل لكل أحد، فلا يبقى معه إشكال، قال مالك في الموطأ : ( ومن رأى هلال شوال نهارا فلا يفطر، ويتم صومه ذلك، فإنما هو هلال ـ أي الهلال الذي يكون عليه الفطر هو هلال ـ الليلة التي تأتي )، وذلك لما رواه أبو وائل، قال: جاءنا كتاب عمر ” ونحن بخانقين، فقال: ( إن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمس )، وهو قول عثمان بن عفان وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم، فقد روى سالم عن أبيه: ( لا تفطروا حتى يُرى من موضعه )، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد.
القول الثاني: قول الحسابيين من أهل الشرع، إنه إذا دل الحساب على دخول الشهر القمري بتقدير منازل القمر فيجب العمل به في الصوم والفطر، ومعناه عندهم: مفارقة القمر للشمس بعد حصول الاقتران، إذا حدثت هذه المفارقة قبل بداية اليوم الشرعي وهو الغروب، ودل الحساب على وجود الهلال في الأفق بعد الغروب على أي وجه من الوجوه، وأنه لولا وجود الموانع أيا كانت شعاعية أم هندسية أو غيرها لأمكنت رؤيته، فإنه يجب الصوم والفطر ولا تشترط الرؤية بالفعل، وذلك لوجود السبب، وهو العلم بوجود الهلال، وهو عندهم معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ( فاقدروا له )، وقد بين ابن دقيق العيد مذهب الحسابيين من أهل الشرع على هذا النحو الذي ذكرته، وكذلك السبكي، ونفى أن يكون معناه عندهم مفارقة القمر للشمس مطلقا في أي وقت من ليل أو نهار، قال ابن دقيق العيد في شرح عمدة الأحكام:( وأما إذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يُرى لولا وجود المانع كالغيم مثلا، فهذا يقتضي الوجوب، لوجود السبب الشرعي، وليست حقيقة الرؤية بمشروطة في اللزوم، لأن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بالحساب بإكمال العدة أو بالاجتهاد بالأمارات أن اليوم من رمضان، وجب عليه الصوم، وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه (، وقال بهذا القول من الفقهاء القدامى مطرف بن عبد الله بن الشِّخير من التابعين، وبعض فقهاء المالكية من البغداديين، وأبو العباس بن سريج من الشافعية وآخرون، وقال به بعض المعاصرين أيضا، لكن جمهور أهل العلم من السلف والخلف لم يأخذوا به، وعدم الأخذ به في الإثبات هو الراجح والصواب إن شاء الله، لمخالفته لظواهر ما ثبت في السنة من ترتيب الصوم على الرؤية، كما تقدم.
وإلى جانب هذين القولين في إثبات بداية الشهر القمري الشرعي، يوجد ما يسمى الشهر الفلكي، الذي يبدأ بمفارقة الشمس للقمر، أيا كان وقت هذه المفارقة من ليل أو نهار، والشهر عندهم 29,53 يوما ـ أي 29 يوما و12 ساعة و42 دقيقة ـ وهي المدة التي يستغرقها القمر في دورته حول الأرض، وهذا القول الأخير لم يقل به أحد من أهل العلم، ولم يعتدوا به في الأحكام الشرعية، وقد أدخل بعض المعاصرين من أصحاب المراصد الفلكية ومراكز الاستشعار عن بعد على هذا القول الأخير تعديلا، وحاولوا الاستدلال على أن يجعلوه شهرا شرعيا، تُحَلّ به الإشكالات والخلافات الواقعة في العالم الإسلامي في الصوم والفطر ونحو ذلك.
ومفاد هذا التعديل أن اليوم الشرعي يبدأ من اليوم التالي لحصول ولادة الهلال (الاقتران)، حتى لو حصل هذا الاقتران ليلا بعد المغرب، مادام حصوله كان قبل طلوع الفجر، ومنهم من يقيده بحصوله قبل منتصف الليل، على أساس أن التوقيت العالمي لليوم الجديد يبدأ عقب منتصف الليل .
وهذا القول المعدَّل هو كأصله مخالف لإجماع أهل العلم كما يقول السبكي، وذلك لمخالفته للقائلين بالرؤية وللقائلين بالحساب معا، فمخالفته للقائلين بالرؤية واضحة، لأنه لا يعتمد الرؤية، أما مخالفته للقائلين بالحساب، فلأن القائلين بالحساب من فقهاء الشريعة يشترطون مفارقة القمر للشمس قبل بداية اليوم الشرعي، وهو الغروب، حيث يكون الاقتران قد حدث قبل ذلك، ومضت مدة للانفكاك الجزئي للقمر ومفارقته للشمس، سواء رؤى الهلال بعد ذلك أو لم يُر.
فاشتراط مفارقة القمر للشمس قبل الغروب عند الحسابيين من أهل الشرع لا بد منه، كما تقدم في كلام ابن دقيق العيد في تصوير مذهبهم، وذلك لأن الغروب هو وقت وجوب الصوم، لقول الله تعالى: ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، ومشاهدته هي رؤية الهلال في أول ليلة منه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ..)، ومن كان وقت الوجوب ـ وهو الغروب ـ غير مخاطب بالصوم، لعدم مشاهدة الشهر بسبب تأخر مفارقة القمر للشمس عن الغروب ـ لم يجب عليه الصوم، لسقوط الطلب ليلتها، فإن الفقهاء اتفقوا على أن من توجه إليه الخطاب بعد وقت الوجوب سقط عنه الطلب، وذلك كمن ولد بعد غروب الشمس من ليلة العيد، أو بعد طلوع الفجر على الخلاف في وقت وجوب زكاة الفطر، فإنهم اتفقوا على أنها لا تجب عليه .
فلو حصل الاقتران بعد الغروب كما يقول أصحاب مركز الاستشعار عن بُعد فمعنى ذلك بداهة أن الهلال لا وجود له في الأفق تلك الليلة، لأن القمر وقت الاقتران مصاحب للشمس، والشمس قد غربت وغرب القمر بغروبها، وهي لا تخرج ثانية بالليل، فلا إمكان إذا لوجود الهلال في الأفق تلك الليلة، وبذلك انخرم الشرط الذي قال به الحسابيون من أهل الشرع في ثبوت الشهر.
وقد استند أصحاب هذا القول الثالث المحدث إلى مجموعة شبه، ملخصها فيما يأتي:
الأولى ـ قالوا النهار يتبع الليلة التي تليه، وليس هو لليلة التي سبقته، والهلال في الليلة التالية للَيلة المحاق سيكون قطعا موجودا في الأفق، بل رؤيته تكون ممكنة جدا، فالنهار الذي قبلها يكون أول الشهر، تبعا لليلة التي بعده، قالوا والدليل على أن النهار يكون لليلة التي تليه لا للتي قبله، تسمية ليلة العاشر من ذي الحجة بليلة عرفة، ومعلوم أن يوم عرفة عند المسلمين هو يوم التاسع، فاليوم سبق ليلته.
قالوا ويدل له أيضا : إخبار الله تعالى أنه عذب عادا بالريح سبع ليال وثمانية أيام حسوما أي ـ متوالية ـ، ولو كان الليل يسبق النهار لكانت مدة العذاب ثماني ليال وسبعة أيام .
الثانية ـ قالوا: إن حََجّة النبي * كانت بالجمعة باتفاق أهل العلم، واقتران الشمس بالقمر الذي يعقبه هلال شهر ذي الحجة في تلك السنة حسب قولهم، كان ليلة الخميس، وقد بدأ الشهر فعلا بالخميس، والنبي * مؤيد بالوحي، فلو كانت الرؤية لشهر ذي الحجة في تلك السنة خطأ لأظهر الله تعالى نبيه عليها، ولبين له الوقت الصحيح لحجته، ولكن وقتها صحيح قطعا، لأنه عُلم بالوحي من فعل النبي * وقوله وإقرار الله تعالى إياه، ويلزم منه أن الشهر يثبت شرعا لليوم الذي يعقب ليلة الاقتران، ولا يلزم بالضرورة لثبوت الشهر أن تكون ولادة الهلال قبل الغروب.
الثالثة ـ أنه حدث كسوفٌ ليلة السابع والعشرين من شهر يناير عام 632 م وهذا اليوم يفترض أن يكون هو الأول من شهر ذي القعدة، من السنة العاشرة للهجرة، لتصح رؤية هلال ذي الحجة بعد ذلك ليلة الخميس للسابع والعشرين من فبراير، حتى يوافق حجة النبي * بالجمعة للتاسع من الشهر، لكن ثبوت بداية شهر ذي القعدة يوم 27 يناير من تلك السنة متعذر، لحدوث الكسوف ليلتها، ومن المعلوم فقها وحسابا أن الكسوف لا يكون إلا في آخر الشهر في المحاق، ولا يكون في بداية الشهر، وهذا يدل على أن ذا القعدة تلك السنة لم يبدأ إلا يوم 29 يناير، لأنه لا يمكن أن يبدأ صبيحة ليلة الكسوف .
ويلزم من هذا صحة ثبوت الشهر بالولادة الفلكية، ولو كانت الرؤية غير ممكنة، بسبب وجود الهلال في الأ فق .
الرابعة ـ ورد في حديث أبي هريرة ” عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ فِي رَمَضَانَ لَمْ تُعْطَهَا أُمَّةٌ قَبْلَهُمْ: خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُم المَلائِكَةُ حَتَّى يُفْطِرُوا، وَيُزَيِّنُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ يَوْمٍ جَنَّتَهُ ثُمَّ يَقُولُ: يُوشِكُ عِبَادِي الصَّالِحُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُم المَئُونَةَ وَالأَذَى وَيَصِيرُوا إِلَيْكِ، وَيُصَفَّدُ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ فَلا يَخْلُصُوا إِلَى مَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ، وَيُغْفَرُ لَهُمْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ أَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، قَالَ: لا، وَلَكِنَّ العَامِلَ إِنَّمَا يُوَفَّى أَجْرَهُ إِذَا قَضَى عَمَلَهُ ) .
فلو كانت الليلة تسبق يومها لكان معنى ذلك أن المغفرة تحصل لهم قبل أن يصوموا اليوم الأخير من رمضان، وهذا يعارضه الحديث الآخر الذي دل على أنهم لو أفطروا يوما من رمضان لم يقضه صوم الدهر، ولفظه :
عن أبي هريرة ” أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ وَلا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِ عَنْهُ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ وَإِنْ صَامَهُ )، ويؤيده أيضا حديث أوس الأنصاري ” أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى يوم الفطر يوم الجائزة فهذا يدل على أن الصائم يعطى أجره الليلة التي يكون صبيحتها العيد، لأن اليوم الذي يليها هو يوم الجائزة .
ولفظه عن سعيد بن أوس الأنصاري عن أبيه قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطريق فنادوا: أغدوا يا معشر المسلمين إلى رب كريم يمن بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أمرتم بقيام الليل فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم وأطعتم ربكم، فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلوا نادى مناد ألا إن ربكم قد غفر لكم فارجعوا راشدين إلى رحالكم فهو يوم الجائزة، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة ) وفي رواية: ( رب رحيم ) بدل (رب كريم ) فقال: ( قد غفرت لكم ذنوبكم كلها ).
الإجابة عن الشبه:
قبل الإجابة على الشبه الواردة، لابد من بيان أن هذا القول الثالث الذي يعتمد الاقتران الحاصل بعد غروب الشمس لبداية الشهر، هو قول باطل تأباه النصوص الشرعية من القرآن والسنة الثابتة عن النبي *، لأن مؤدّاه أن نعمل في العبادة من الصوم والفطر، وغير ذلك من الآجال الشرعية والمواقيت، بالزمن الذي يستغرقه القمر في دورته حول الأرض ـ أي الشهر الفلكي ـ الذي هو تسع وعشرون يوما وكسرا (29.53) وهو ملغى بالنص، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الشهر الشرعي، بقوله فيما رواه ابن عمر “: ( الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلاثِينَ )، وفي لفظ عند مسلم، قال رَسُولُ الله *: ( الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، وَطَبَّقَ شُعْبَةُ يَدَيْهِ ثَلاثَ مِرَارٍ وَكَسَرَ الإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ، قَالَ عُقْبَةُ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ الشَّهْرُ ثَلاثُونَ وَطَبَّقَ كَفَّيْهِ ثَلاثَ مِرَارٍ ).
ولو كان الشهر يقع تسعا وعشرين وكسرا لذكره *، لأنه في معرض البيان بالعد والتنصيص، المقرون بالقول والإشارة، وهو غاية البيان، ولأن الأخذ به يؤدي إلى تناقض عجيب، وتضارب بيّن في الأحكام الشرعية كما يأتي بيانه.
الجواب عن الشبهة الأولى :
القول بأن النهار يتبع الليلة التي تليه لا الليلة التي سبقته، هذا القول مخالف للقرآن، ذلك أن الشهور القمرية تبدأ بالليالي، ولا تبدأ بالنهار، لأنها منوطة بالأهلة بالاتفاق، لقول الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ).
ومخالف لإجماع أهل العلم كما ذكر السبكي، ولأنه يترتب عليه التناقض في الأوامر الشرعية والتضارب في الأحكام، فإن القول به يستلزم دخول الشهر قبل ثبوته، إذ لو كان النهار يتبع الليلة التي بعده، لوجب على الناس الصوم يوم التاسع والعشرين من شعبان، إذا رأوا عند غروبه هلال رمضان، ولوجب عليهم الفطر يوم التاسع والعشرين من رمضان، إذا رأوا عند غروبه هلال العيد، ولحرم عليهم صوم ذلك اليوم، كيف وهم قد صاموه، امتثالا لأمر الله تعالى بصومه: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشهر فَلْيَصُمْه)، ولأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بصومه وتحريمه على الناس فطره في قوله 🙁 وَلا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ )، فهل يعقل أن يأمر الله ورسوله بصوم ذلك اليوم ـ أي يوم التاسع والعشرين من رمضان ـ ويصومه الناس طاعة لله واتباعا لأمره، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم يجعله عليهم حراما بعد أن صاموه، لأنه تبين أن الليلة التي تعقبه ليلة عيد، والنهار على هذا المذهب يتبع الليلة التي بعده، لا التي قبله؟!! . اللهم إنا ننزه كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا التناقض، فهو لا يصدر عن عاقل، بلْه الشارع الحكيم،(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا).
والأدلة من الشرع في نصوص القرآن والسنة على أن كل ليلة تسبق يومها ولا يسبقها يومها أكثر من أن تحصى، منها قول الله تعالى:(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ)، فإن معناها عند المفسرين أي الليلة التي تصبح منها صائما، وليس الليلة التي تصبح منها مفطرا كليلة العيد مثلا.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِن اللَّيْلِ فَلا صِيَامَ لَهُ )، ومعلوم أن النية تكون لليوم التالي للَيلة تبييت النية، لا للسابق، فلو نوى إنسان الليلة صيام أمس لكان عابثا، ولا أحد من أهل العلم يُجَوِّز فعله هذا، والقول بأن اليوم يسبق ليلته يلزم منه تصحيح نيته .
ومنها ما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضى الله عنه، في اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم وإخباره بليلة القدر، وفيه: ( حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِن صَبِيحَتِهَا مِن اعْتِكَافِهِ ) فأسند نص الحديث صبح اليوم لليلة التي سبقته، وفيه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم : ( وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِن صَبِيحَتِهَا … فَمَطَرَت السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ )، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : ( فَبَصُرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ المَاءِ وَالطِّينِ مِن صُبْحِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ )، وهو نص في المقصود، وقد شاع في الشرع ليلة النحر لليلة العاشر من ذي الحجة كما في قول عائشة رضي الله عنها: ( أَرْسَلَ النَّبِيُّ * بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ فَرَمَت الجَمْرَةَ )، والنحر إنما هو في اليوم الذي يليها لا اليوم الذي قبلها، وقالوا ليلة الخميس لليلة التي يعقبها الخميس، وليلة الجمعة لليلة التي تعقبها الجمعة، كما في حديث النهي عن تخصيص ليلتها يقيام ، وتخصيص يومها بصيام ، وقل مثل ذلك في سائر الليالي، وما كنت أتصور أن هذه قضية لوضوحها تحتاج إلى دليل، وقد قيل:
وليس يثبت في الأذهان شيءُ …. إذا احتاج النهار إلى دليل
لكن ما العمل وقد مست الحاجة.
أما عن يوم عرفة وليلته التي احتجوا بأنها تسمى ليلة عرفة، ويومها يسبقها فهذا صحيح، ووإني أضيف إلى المتعلق بها أيضا ليلة أخرى ، يومها يسبقها، وهي ليلة النفْر، لكن ليس ذلك بمغير من الأمر شيئا، لأن هذا لم يكن عن أهل العلم بغفلة، فقد ذكروا ذلك، ونبهوا على أنه استثناء لا نظير له في الشرع، لئلا يغتر به أحد فتتناقض عليه الأحكام، ويخترع منها ما لم يكن في الحسبان .
ففي حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري ، قالت: ( .. فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الحَصْبَةِ لَيْلَةُ النَّفْرِ قَالَ ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم ـ : فَاخْرُجِي مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي بِعُمْرَةٍ …)، قال الحافظ في الفتح عند الكلام على هذا الحديث: ( فيه تعقب على من قال كل ليلة تسبق يومها إلا ليلة عرفة، فإن يومها يسبقها، فقد شاركتها ليلة النفْر في ذلك ) فليلة الحصبة التي اعتمرت فيها عائشة من التنعيم وسمتها ليلة النفر أيضا ، هي ليلة الخامس من أيام النحر، والناس قد نفروا من منى في اليوم الرابع ، فأضافت عائشة الليلة لليوم الذي قبلها، وهو استثناء في الاستعمال الوارد في النصوص الشرعية، نبهوا عليه رحمهم الله تعالى ، لئلا يُُتخذ قاعدة تُهدم بها قواعد الشريعة المحكمة.
وما ذكروه في قول الله تعالى عن ريح العذاب:(سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا)، ليس فيه ما يدل على أن النهار للّيلة التي تليه بل هو على القاعدة، لأن نزول العذاب بدأ بهم نهارا وهم مصبحون كما ذكر المفسرون، فاليوم الأول من العذاب لم يعذبوا ليلته التي سبقته، ولذلك لم تحسب، وإنما بدأ عذابهم صبيحتها، ويقال إنه كان غداة الأربعاء، وانتهى بهم آخر نهار اليوم الثامن، وليلته التي سبقته تعد ليلة الثامن من أيام العذاب، فليلة اليوم الأول لم يعذبوا فيها، لذا لم تحسب، والليلة التي تلي اليوم الثامن لم يعذبوا فيها، ولذلك لم تحسب، وبهذا كان زمن العذاب سبع ليال وثمانية أيام، ولو ذهبنا إلى ما قالوا من إضافة الليلة اللاحقة إلى اليوم السابق للزم أن تكون الآية ثماني ليال وثمانية أيام، وهو ما لم يقله القرآن.
فالآية جاءت لبيان إحصاء زمن العذاب النازل بالمكذبين، لا لبيان كون النهار يسبق لليل.
الجواب عن الشبهة الثانية :
أما الشبهة الثانية فالكلام الذي جاء فيها عجب من العجب، لأن ما قيل فيها لا حقيقة له ولا أساس له من الصحة، فالمراصد الفلكية لهلال ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة سنة حج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، تقول إن (الاقتران) كانت يوم الثلاثاء الموافق لخمس وعشرين من شهر فبراير الساعة 22 ـ أي الثامنة مساء ـ وتسع دقائق وإحدى وعشرين ثانية وكان غروب الشمس بالمدينة المنورة يوم الأربعاء للسادس والعشرين من فبراير الساعة 18 ـ أي السادسة مساء ـ و25 دقيقة و57 ثانية وكان عمر الهلال عند الغروب من هذه الليلة ليلة الخميس بالمدينة المنورة 18 ساعة و59 دقيقة و47 ثانية، وأنه بقى في الأفق بعد غروب الشمس 34 دقيقة و50 ثانية ، هذا ما قالته الجداول الفلكية المعتمدة، وبقاء الهلال في الأفق أكثر من نصف ساعة بعد غروب الشمس هو وقت كاف لرؤيته بالعين المجردة، وذلك لاجتماع الظلمة، وبعد الهلال عن شعاع الشمس، فلا وجه للطعن في الرؤية بثبوت ذلك الشهر، ولا في حجة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ولو كان الشهر يثبت بولادة الهلال حتى بعد غروب الشمس لكانت بداية شهر ذي الحجة لتلك السنة يوم الأربعاء، لأن الهلال ولد في ليلتها الساعة الثامنة مساء كما تقدم بيانه، ولكانت حجة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بالخميس، وهو ما لم يحصل .
الجواب عن الشبهة الثالثة:
ما قيل في رد دعوى الولادة المزعومة لهلال ذي الحجة من السنة العاشرة يقال فيما رتبوه على الكسوف الواقع يوم 27 يناير عام 632 م، من أنه يتعذر معه أن تكون بداية ذي الحجة يوم الخميس 27 يناير لتوافق حجة النبي صلى الله عليه وسلم .
إن وقوع الكسوف في التاريخ المذكور ليس بِمُحدِث خللا في ثبوت الشهر بالرؤية، أو بما يخالف حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد كان وقت الكسوف يوم 27 الساعة 7 و 39 دقيقة صباحا، ولا بد أن يكون هذا آخر شهر شوال، لأن الكسوف لا يكون إلا في المحاق في آخر الشهر، وكانت ولادة القمر لشهر ذي القعدة ـ أي بدء مفارقة القمر للشمس ـ صبيحة ذلك اليوم نفسه 27 يناير الساعة 7 و46 دقيقة و 37 ثانية، وغروب الشمس لتلك الليلة بالمدينة المنورة الساعة 6 و7 دقائق، وغروب الهلال كان الساعة 6 مساء و22 دقيقة، وعليه فهلال ذي القعدة عند المغرب من ليلة 28 يناير يكون قد مضى عليه 11 ساعة تقريبا، ويكون بقاؤه في الأفق بعد غروب الشمس 14 دقيقة و 29 ثانية، فرؤيته تلك الليلة ممكنة، فلو رؤي لكانت بداية ذي القعدة يوم 28 يناير، ولكان بذلك لتلك السنة ثلاثين يوما، لأن ذا الحجة بدأ يوم 27 فبراير، فلا يتعارض مع حجة النبي صلى الله عليه وسلم .
هذا عن عمر هلال ذي القعدة ليلة 28 يناير، أما ليلة 29 يناير، فيكون قد مضى عليه 35 ساعة تقريبا، فغروب الشمس ليلتها الساعة 6 و8 دقائق، وغروب القمر الساعة 7 و20 دقيقة، وبقاء القمر في الأفق بعد الغروب 48 دقيقة، فلو افترضنا أنه لم ير هلال ذي الحجة إلا تلك الليلة لكانت بداية ذي القعدة يوم 29 يناير، فإذا رأى المسلمون بعد ذلك هلال ذي الحجة ليلة الخميس 27 فبراير ليوافق حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، ما كان بذلك بأس، ولا وقع في الحجة خلل، لأن شهر ذي القعدة حينها يكون تسعا وعشرين ، منها 3 أيام من شهر يناير و 26 يوما من شهر فبراير، والشهر يكون هكذا وهكذا، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأي شيء مستغرب في هذا ؟.
أما الشبهة الرابعة التي ذكروها:
فالأحاديث الواردة فيها كلها لا يثبت منها شيء، ولا تقوم بها حجة، فحديث أبي هريرة الأول: ( أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ …..) ضعيف جدا، فيه هشام بن زياد أبو المقدام، متروك، كما في تقريب التهذيب .
وحديثه الثاني: ( مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ …)، قال البخاري: ( تفرد به أبو المُطوِّس، واسمه يزيد بن المطوس وَلا أَدْرِي سَمِعَ أَبُوهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَة أَمْ لا ).
قال الحافظ في الفتح: ( وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى حَبِيب بن أَبِي ثَابِت اِخْتِلافًا كَثِيرًا فَحَصَلَتْ فِيهِ ثَلاث عِلَل: الاضْطِرَاب وَالجَهْل بِحَالِ أَبِي المُطَوِّس وَالشَّكّ فِي سَمَاع أَبِيهِ مِن أَبِي هُرَيْرَة ).
وحديث أوس الأنصاري : ( إذا كان يوم عيد الفطر ).
رواه الطبراني في الكبير وفيه جابر بن يزيد الجُعفي، رافضي، ضعيف، كما في التقريب، وقال النسائي وغيره: متروك، وقال الإمام أحمد: تركه عبد الرحمن بن مهدي ويحيى القطان بآخرة .
وبعد معرفة ما في الأحاديث التي ذكروها من علل ، أجد أنه لا حاجة بي إلى رد ما رتبوه عليها من استدلال، على أن الليل لليوم السابق لا للاحق، لأن الأساس الذي بني عليه الاستدلال واه، ولا تقوم بها حجة والله أعلم .
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
10 – 2 – 2008