إقامة الجمعة في حقول النفط والمدن الأوربية التي لا يتوطنها مسلمون
إقامة الجمعة في حقول النفط والمدن الأوربية التي لا يتوطنها مسلمون
انعقاد الجمعة في الأماكن التي يتعاقب عليها ناس غير متوطنين
ذكر أهل العلم أن المكان إذا كان أهله لا تتكون بهم قرية، بأن كان عددهم قليلا، فلا يصح لهم أن يقيموا الجمعة ولا تجب عليهم، وكذلك إذا كان عددهم كثيرا وإقامتهم بالمكان مؤقتة بمدة معينة، مثل طلبة العلم أو التجار، يقيمون في البلاد مدة طلبهم للعلم، أو مدة التجارة وينوون الخروج منها بعد ذلك، فهؤلاء ليسوا متوطنين لتلك البلاد، ولا تصح إقامتهم للجمعة إلا تبعا لغيرهم من أهل الوطن، فإذا لم يكن في البلد غيرهم فلا يقيمون الجمعة ولا تصح منهم؛ لأن قبائل العرب كانوا مقيمين حول المدينة، وما كانوا يصلونها، وما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها، وقد خرج صلى الله عليه وسلم إلى عرفات ومعه أهل مكة، وهم في ذلك الموضع مقيمون، فلو كانت الجمعة تنعقد بهم لأقامها.
لكن السؤال: لو كان المكان به خصائص المدن والقرى المأهولة ـ من العمران ونشاطات الحياة ولوازمها المختلفة، من السوق والإدارة والحماية وغير ذلك، إلا أن ما فيه من المسلمين يتعاقبون على المقام فيه، فيذهبون ويأتون على الدوام، أو يذهبون ويأتي غيرهم، والمكان على مر السنين الطويلة مأهول، متواصل العمران من غير انقطاع، كما هو الحال في حقول النفط الواقعة في الصحراء، وكما هو الحال حتى في بعض البلاد غير المسلمة التي تأتيها جاليات مسلمة للدراسة أو العمل ثم ترحل تدريجيا، لتعقبها جاليات أخرى تدريجيا، وهكذا دواليك، جماعات تتلوها جماعات، والمكان عامر بجماعات المسلمين على مر السنين الطويلة لا تنقطع، فهل يُعد أهل مثل هذه الأماكن من أهل الجمعة، لتعاقبهم الطويل؟ أم أنهم لما كانت كل جماعة منهم في ذاتها غير متوطنة على الدوام ونية التأبيد مدى الحياة، لا تنعقد بهم الجمعة، لأنهم غير متوطنين؟.
الاستيطان والجماعة شرطان لانعقاد الجمعة:
شرط انعقاد الجمعة أن تكون إقامتها في قرية أو بلد في جماعة، وقد حدد علماء المالكية العدد باثني عشر؛ لما جاء في الصحيح عن جابر رضي الله عنه قال: ( كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَدِمَتْ سُوَيْقَةٌ، قَالَ: فَخَرَجَ النَّاسُ إِلَيْهَا، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ اثْنَا عَشَرَ رَجُلا أَنَا فِيهِمْ، فأنزل الله تعالى:(وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) )، وحد بعض أهل العلم الجماعة الذين تقام بهم الجمعة بخمسين، فقد روي عن أبي سلمة رضي الله عنه ، قال: قلت لأبي هريرة رضي الله عنه : على كم تجب الجمعة من رجل؟ قال: لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين جمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عماله: ( أيُّما قرية اجتمع فيها خمسون رجلا فليؤمهم واحد منهم، وليخطب عليهم الجمع ).
واشترط جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في القول الراجح المشهور عندهم جميعا لهذا العدد شرطين:
1 ـ أن يكونوا بحيث يمكنهم أن يستغنوا بأنفسهم في ضروريات حياتهم.
2 ـ أن يكونوا متوطنين في ذلك المكان على الدوام.
وقال الأحناف زيادة على ذلك: لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع ولا تجوز في القرى.
وفيما يلي نصوص الفقهاء في المسألة:
قال الخرشي في شرحه على خليل:( شرط صحة الجمعة وقوع كلها بخطبتها في وقت الظهر إلى الغروب مع الاستيطان؛ وهو العزم على الإقامة على نية التأبيد ).
وقال النووي في المجموع: ( وفي انعقادها بالمقيم غير المستوطن وجهان، أصحها عدم انعقادها ).
وقال ابن قدامة في المغني عن شرط الاستيطان هذا: ( هو شرط في قول أكثر أهل العلم ).
معنى الاستيطان:
معنى الاستيطان عند الفقهاء ـ الذي هو شرط لوجوب الجمعة وصحة انعقادها ـ الإقامة في المكان إقامة دائمة على التأبيد، بحيث لا ينوون الانتقال عنه، ففي مواهب الجليل للحطاب عن ابن ناجي: ( وأما الاستيطان، فقال الباجي: هو الإقامة بنية التأبيد, ونقله ابن فرحون وابن الفرات وغيرهم، وقال في التوضيح في باب الحج: حقيقة التوطن الإقامة بعدم نية الانتقال ).
وفي شرح الخرشي، عند قول خليل (باستيطان بلد): ( أي شرط صحة الجمعة وقوع كلها بخطبتها في وقت الظهر إلى الغروب مع الاستيطان، وهو العزم على الإقامة على نية التأبيد، ولا تكفي نية الإقامة، ولو طالت ) إلى أن قال:( فلا تجب على مسافر ولا مقيم ولو نوى إقامة زمنا طويلا، إلا تبعا ).
وقال زكريا الأنصاري في أسنى المطالب: ( والغريب المقيم ببلدة إذا لم يستوطن بها، بل عزمه الرجوع إلى وطنه بعد مدة، يخرج بها عن كونه مسافرا, وإن طالت، كالمتفقّه والتاجر، لزمته الجمعة، لإقامته مع سماعه النداء، ولم تنعقد به لعدم استيطانه ).
ومعنى عدم انعقادها به في الكلام السابق أنها لا تصح منه إلا تبعا لغيره من أهل الوطن، وأنهم لو استقلوا بإقامتها وليس معهم متوطنون لا تصح منهم.
وفي المغني لابن قدامة: ( والاستيطان من شرط الوجوب, ولأنه لم ينو الإقامة في هذا البلد على الدوام … فأشبه أهل القرية الذين يسكنونها صيفا ويظعنون عنها شتاء, ولأنهم كانوا يقيمون السنة والسنتين لا يجمعون ولا يشرقون, أي لا يصلون جمعة ولا عيدا ) .
وفي الإنصاف للمرداوي ما مفاده: أن الجمعة لا تنعقد في موضع من غير أهلها, كأن يكونوا في موضع لتعلم العلم, أو شغل لغيرهم, غير مستوطنين, لئلا يصير التابع أصلا.
ويقول في موضع آخر فعلى المذهب: ( لو أقام مدة تمنع القصر, ولم ينو استيطانا، فالصحيح من المذهب أن الجمعة تلزمه بغيره ـ أي مع غيره من المتوطنين ـ وليس استقلالا ).
تحرير في معنى الاستيطان:
هل الاستيطان ـ الذي مر أن اشتراطه لإقامة الجمعة محل اتفاق ـ تفسيره كما يُتبادر من الكلام السابق للفقهاء: أن يكون الناس القاطنون في المكان يقيمون فيه بنية الدوام، ولا ينوون الانتقال عنه، وأنهم لو كانوا يذهبون ويجيئون لا يكونون مستوطنين، كما مثل ابن قدامة لذلك في كلامه السابق لمن لا تنعقد بهم الجمعة بقوله: فأشبه أهل القرية الذين يسكنونها صيفا ويظعنون عنها شتاء؟، ومثل هؤلاء في الحكم بناء على ذلك، الذين يتناوبون على المكان باستمرار، فيذهبون ويجيئون، أو يجيء غيرهم، فلا يسمون متوطنين، وعلى هذا المعنى لا تقام بينهم جمعة في المكان الذي يترددون عليه، حتى لو كان المكان على مر السنين والأعوام عامرا، والعمران قائما، وتتوفر فيه وسائل العيش المستقرة، كسائر المدن؟.
أم أن تفسير الاستيطان في باب الجمعة قد يُعطى مدلولا أوسع، يُنظر فيه إلى الحكمة من إقامة الجمعة، بإظهار أُبهة الإسلام وعزته في كل موطن يتمتع أهله بدوام الاستقرار، ووجود العمران الذي لا ينقطع من جماعات المسلمين، دون النظر إلى أعيانهم وذواتهم، فيكون المكان وطنا مادام عامرا طول الوقت لا تنقطع المواطنة فيه، ولو بتعاقب الناس عنه، حتى لو كانت الجماعة تقيم مدة وتذهب لتعود وتحل محلها أخرى وقت ذهابها، بحيث يكون المكان على مر السنين الطويلة المديدة به مقومات الوطن من الناس والعمران والخدمات وما إليها من لوازم الحياة المختلفة.
وتفسير الاستيطان بهذا المعنى الأخير في انعقاد الجمعة قريب مناسب لمعنى الحكمة من إقامة الجمعة، وفي تفسير ابن بشير وابن ناجي للاستيطان ما يؤيده، قال ابن ناجي:
( ولا يخرجهم عن حقيقة الاستيطان كونهم يخرجون في أيام المطر نحو الشهرين، فقد نقل الشيخ أبو الحسن الصُّغير عن تعاليق أبي عمران، في الجماعة يقيمون بموضع ستة أشهر، ثم يرتحلون إلى موضع آخر يقيمون فيه ستة أشهر، أنهم يجمعون، لأنها صارت كقريتين إذا حلوا بإحداهما أقاموا فيها، وإذا حلوا بالأخرى أقاموا فيها ).
وكلام ابن بشير في تقرير معنى الاستيطان أيضا يساعد على هذا، قال: ( من شروط أداء الجمعة موضع استيطان, والمشهور أنه لا يشترط أن يكون مِصرا، بل يُجمع في القرى إذا أمكن فيها مداومة الثَّواء, واستغنوا عن غيرهم، وحصلت بجماعتهم إقامة أبهة الإسلام ) .
فحقول النفط اليوم، يَستغني من بها عن غيرهم في معيشتهم، وتُمكن بها مداومة الثواء، بل يوجد فيها ما لا يوجد في كثير من المدن، كالمطارت الجوية ومعسكرات الحماية، عِلاوة على الأسواق وأماكن الإقامة والخدمات ونحو ذلك.
ويعد العاملون بهذه الأماكن ـ وبعضهم من عشرات السنين ـ لهم موطنين؛ موطن في مكان عمله، الذي يُمضي فيه شطر حياته، وموطن في بلده الأصلي الذي يرجع إليه مرة كل شهر، كما ذكر ابن ناجي في نظيره فيمن لا يخرجهم عن حقيقة الاستيطان كونهم يخرجون في أيام المطر نحو الشهرين …، لأنها صارت كقريتين إذا حلوا بإحداهما أقاموا فيها، وإذا حلوا بالأخرى أقاموا فيها.
فكل مكان أمكن فيه مداومة الثواء, واستغنى فيه القائمون به عن غيرهم، وحصلت بجماعتهم إقامة أبهة الإسلام، وتطاول عمرانه بالناس ـ كما هو الحال في حقول النفط التي هي أشبه بمدن قائمة بنفسها، وكما في بعض المدن الأوربية التي لا توجد بها جالية مسلمة متوطنة على الدوام، وإنما تتعاقب عليها جاليات مسلمة للعمل أو الدراسة، ثم يرحلون ـ كل أولئك تصح منهم إقامة الجمعة، لما في إقامتها من إظهار عزة الإسلام وتحقق دوام الجمعة المسلمة في المكان، حملا للاستيطان ـ الذي هو شرط لإقامة الجمعة ـ على معنى توطن جماعات المسلمين بالمكان، بالنظر إلى مجموعهم لا إلى آحادهم وأعيانهم.
ومن أراد من هؤلاء الذين يقيمون الجمعة في حقول النفط أن يصلي بعد الجمعة أربع ركعات ظهرا احتياطا فحسن، كما نبه على ذلك علماء الأحناف في مثل هذا الأمر، ففي الفتاوى الهندية: ( ثم في كل موضع وقع الشك في جواز الجمعة لوقوع الشك في المصر أو غيره، وأقام أهله الجمعة، ينبغي أن يصلوا بعد الجمعة أربع ركعات وينووا بها الظهر حتى لو لم تقع الجمعة موقعها يخرج عن عهدة فرض الوقت بيقين, كذا في الكافي, وهكذا في المحيط ).
والله تعالى أعلم
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
4 / جمادى الأولى / 1429 هـ
الموافق 9 / 5 / 2008