المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة(184)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (184)
(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)[آل عمران:110].
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) أي: كُنْتُمْ ولا زلتُم، فكان هنا تدلُّ على الدوام، كما في قوله تعالى: (وَكانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا) وشبهه؛ لأنّ كانَ وإنْ كان معناهَا يقعُ على شيءٍ في الماضي، فلا تدلّ في ذاتِها على الانقطاع، كما أنها لا تدلّ على الاستمرار، والقرائنُ هي التي تحددُ ذلك، والخطاب في (كُنْتُمْ) إمّا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم خير القرون، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه تكونُ الأمةُ بمعنى الجماعةِ الخاصة بعصرِ النبوةِ، وإما أن تكونَ الأمّة بمعنى عمومِ أمة محمدٍ صلّى الله عليه وسلم، أمة الإجابة، وهو الظاهر؛ لما يقتضيهِ عمومُ الخطاب، ويدخلُ فيهم أصحابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم دخولًا أوليًّا، والخيرية والتفضيل من تفضيلِ المجموعِ على المجموعِ، ولا يقتضي التفضيل الجماعي الفردي لكل فردٍ مِن هذه الأمة على كل فردٍ من غيرها، فهذا غير واقعٍ، وقوله (خَيْرَ أُمَّةٍ) من إضافة الصفة للموصوف، أي: أمة خير الأمم (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) خير أمة أظهرها الله في بني البشر عامة، منذ أن خلق آدم، فـ(الْ) في الناس تستغرقُ جنس البشر كلهم (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أي: هذه صفتكم، وهي صفة تبين ما أهَّلَ الأمةَ لهذه الخيرية([1])، فجملة (تَأْمُرُونَ) تضمنت معنى الوصفية، المفيدة لتعليل كونهم خير أمة، وهو ما يبين منزلة الأمر بالمعروف في شريعة الإسلام (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي اجتمعت في هذه الأمة خصلتان اقتضَتا تفضيلها: الأولى الإيمان بدينِ الإسلامِ، الدينِ الخاتم الكامل، والأخرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يتحْ هذا لمن قبلها، فقد أخبر الله تعالى عن أهل الكتاب أنهم كانوا لا يتناهون عن مُنكر فعلوه، وتقدم الكلام عن الإيمان في البقرة، في قوله: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)([2])، وقدم الأمر بالمعروف على الإيمان، والإيمانُ أعلى منزلةً لا يسبقه شيء؛ لأنّ الإيمانَ شرفُهُ معلومٌ لا يختلفُ عليه، فقدم الأمر بالمعروف للتنويهِ بفضلهِ في هذا المقام، حتى يتفطن إليه، ولا يغفل (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم)([3]) أي: لو أسلمَ أهلُ الكتابِ لكان إسلامهم خيرًا لهم، يحمدونَ عاقبتهُ، لكن امتنعتْ خيريّتُهم لامتناعِ إسلامِهم، فـ(آمَنَ) بمعنى أسلم، فالذي لم يوجد من اليهود والنصارى هو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ودينِ الإسلام (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) أي منهم مَن أسلمَ فآمنَ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وآمنَ بنبيهِ، فأُعطي أجرَه مرتين، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم([4])، كعبد الله بن سلام ومخيريق من يهود قينقاع، ودحية الكلبي وبعض نصارى نجران، وأصمحة الحبشي (النجاشي) ملك الحبشة (وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) وأكثرهم الخارجون عن الحق، المارقون الواقعون في الفسق، الذي معناه الكفر، بل المروق في الكفر والظهور فيه، كما هو غالب إطلاق الفسق في القرآن، وفي هذه الآية -كما في آياتٍ أخرى كثيرة- تثبيتٌ للمؤمنين؛ بأن ضعفهم وقلتهم وتفرق عدوهم يجب ألّا يخيفهم، ولا يثني عزائمهم، فإن القرآن يخبرهم في كلّ مناسبةٍ أن أهلَ الإيمان وأهلَ الحق دائمًا هم القليل؛ ليعلموا أن العبرة ليست بكثرة العدد، فرجلٌ كألف، وألفٌ كأفّ، وما النصرُ إلّا مِن عند الله، وهذه سنةٌ ماضيةٌ، ليستْ في أمتنا فحسب، بل في كل الأمم قبلنا، فالله تعالى كلما قصّ علينا خبرَ نبيٍّ مع أمته قال عنهم: (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ)([5])، وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)([6])، وقال: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ)([7])، وقال عن نبيه نوح عليه السلام: (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)([8])، وقال عن الشاكرين: (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ)([9])، وكان عمرُ رضي الله عنه يقولُ في دعائه: “اللهم اجعلني مِن القليل”([10]).
[1]) فجملة (تَأْمُرُونَ) إمّا أن تكون خبرًا لكنتم، وإما أن تكون حالية، وإما أن تكون مستأنفة، كأنَّ سائلا يقول: كيف كنا خيرَ أمةٍ؟ فأجيب بقوله: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ).
[2]) البقرة: 3.
[3]) لو: حرف شرط، وامتناع لامتناع، يمتنع حصول جوابه لامتناع شرطه.
[4]) ففي الصحيحين: (ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الأَمَةُ، فَيُعَلِّمُهَا فَيُحْسِنُ تَعْلِيمَهَا، وَيُؤَدِّبُهَا فَيُحْسِنُ أَدَبَهَا، ثُمَّ يُعْتِقُهَا فَيَتَزَوَّجُهَا فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمُؤْمِنُ أَهْلِ الكِتَابِ، الَّذِي كَانَ مُؤْمِنًا، ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ r فَلَهُ أَجْرَانِ، وَالعَبْدُ الَّذِي يُؤَدِّي حَقَّ اللهِ، وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ) البخاري: 3011، ومسلم: 154.
[5]) الشعراء: 8.
[6]) يوسف: 106.
[7]) هود: 40.
[8]) الشعراء: 8.
[9]) ص: 24.
[10]) مصنف ابن أبي شيبة: 29514.