أول اختبار حقيقي يواجهه الليبيون
أول اختبار حقيقي يواجهه الليبيون
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدي بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، وبعد، فإن ما تسرب من تعيينات الوزارة القادمة وأعدادها، وما يشاهد الآن من التسابق المحموم على المناصب في الدولة الجديدة، الذي قد يُستخدم فيه كثير من الأساليب والوسائل القديمة التي اكتوينا بنارها ـ لَيُمَثِّلُ اختبارا حقيقيا لكل الليبيين أفراد، ومسؤولين في المجلس الانتقالي والمكتب التنفيذي؛ اختبار أمانة ونزاهة، اختبار إنصاف وعدل، اختبار مسؤولية وانتصار على الذات. من صنوف الذل التي قامت من أجلها الثورة المباركة وحطمت الأغلال والقيود، ودَفعت من أجلها الأمهات والثكالى بفلذات أكبادها في ميادين المعارك وساحات الوغى ـ تحكم القبيلة والجهة واللحمة والعائلة في مقدرات البلد وثرواتها ومصيرها، كان هذا الظلم صارخا في وقت من الأوقات، حتى إنه لو عُيِّن رئيس جامعةٍ أو جهازٍ من غريان مثلا فإنه (يغرين) كل ذلك الجهاز أو تلك الجامعة، ويحيط نفسه بقرابته وأبناء عمومته، ويتخلص من غيرهم، وهكذا إن كان من ورفلة أو من غيرها. هذا الشبح الكريه الذي لم تتوقف آثار دمويته بعد في بعض المدن التي لا زال يجري بها قتال شرس ضد الثوار، لا نريد أن نراه في عهد الثورة، وهو لا يدل إلا على انحطاط وتخلف في العقل وفي الفكر، وهو ضار جدا بمصلحة الأمة، ومخالف لشرع الله، يؤجج الحقد والكراهية بين أبناء الوطن، ويكون سببا للفرقة والشقاق، فكيف يا ترى ننجح في تجاوز هذا الاختبار ولا ننتكس ـ بعد أن أشرفنا على النصر وقدمنا نموذجا رائعا في التضحية وتجاوز الصعاب كان في العالم أجمع محل تقدير وإعجاب؟ معيار تولي المناصب: لشرع الله معيار في تولي المناصب والوظائف ينسجم مع الفطرة ويقبله كل ذي عقل، ولا يقدر وطني مهما كان انتماؤه وفكره أن يرده، هذا المعيار يتمثل في أمرين أساسيين: الخبرة والعدالة، قال الله تعالى: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)، فالحفظ الأمانة، والعلم الخبرة، وقال تعالى: (إن خير من استأجرت القوي الأمين)، ومن القوة أداء العمل على أكمل وجهه. وعندما نقول العدالة، فمعنى ذلك أن من سُلبت عدالته بما يُعد جُرحة في نظر القانون والشرع ليس بعدل ولا يحل تنصيبه، ومن الوجوه التي تسلب العدالة فيما له تعلق بما نحن فيه، ما يلي: 1 ـ سرقة المال العام. 2 ـ التورط في سفك الدماء وملاحقة ومداهمة الأبرياء، وإيداعهم السجون. 3 ـ الكذب والنفاق وقول الزور المتمثل في اشتهار الشخص بحضوره ما يسمى الملتقيات الثورية والهتاف للصنم والمدح الكاذب. 4 ـ اشتهار الشخص بمعصية من كبائر الذنوب، يجاهر بها ولا يخفيها، وذلك مثل التهاون والاستخفاف بشيء من تعاليم الإسلام، أو الاشتهار بترك الصلاة، أو المجاهرة بشرب الخمر، أو السرقة، أو الكذب. كل هذه الأشياء الأربعة تُعد جرحة تسلب العدالة ولا يحل معها تولي المناصب، لأن الذي يوليهم لو كان قاضيا وأتاه شاهد به واحدة من هذه الصفات فإنه يرد شهادته ويعده مجروحا، ومن تُرد شهادته كيف يُقبل أن يكون حاكما وصاحب قرار يتحكم في رقاب الناس؟! من يُراقب هذا الاختبار: الذي يراقب هذا الاختبار أولا هو الشعب الليبي أفرادا وجماعات. فالجماعة مطالبة بأن تكون عينا ساهرة على الثورة تحرسها عند كل اختراق لمبادئها، بالخروج إلى الميادين والمطالبة بتصحيح الأمور، حتى لا تنحرف الثورة إلى بعض الممارسات الخاطئة التي ترجع بنا إلى الاستبداد وحكم الفرد. والفرد مطالب أن يكون في مستوى المسؤولية ومستوى التضحيات والمعاناة التي قدمتها الأمة، وكل انتهازية أو التفاف منه على المصلحة العامة لتحقيق مصالح شخصية له أو جهوية يُعد تفريطا في دماء الشهداء واستخفافا بمشاعر أهليهم وذويهم، ولا يفعل ذلك حر شريف النفس كريم الطبع. أما من لم يكن كذلك وضعفت نفسه وفشل في أن يكون له على نفسه بصيرة، فرقيبه بعد الله تعالى هو المجلس الوطني الانتقالي، المتمثلُ في رئيسه الذي أجمعت عليه الأمة وبايعته ووكلته أمرها، ووجب عليها له السمع والطاعة في المعروف، ووحدة الصف خلفه، واجتماع الكلمة عليه، وذلك نظير ما لها عليه من إقامة الميزان بالقسط والعدل، وألا يُجامل في الحق مسؤولا رأى منه ميلا، أيا كان هذا المسؤول، ولا تأخذه فيه لومة لائم ـ وقد عهدناه كذلك ـ لذا فإننا نقول له: الحزم الحزم، والعزم العزم، فالنفوس متطلعة إلى المجلس الانتقالي لحماية مسار الثورة، والأعناق مشرئبة إليه مع قلق يساورها من بعض الممارسات، فإنها حتى لو لم تكن مقصودة من أصحابها، فإنها إذا تراكمت وتكاثرت تأججت المشاعر وقد ينفلت الزمام فتتضرر البلد. التضخم الوزاري المُسرَّب: الوزراء هم مسؤولون وولاة أمور، يتم تعيينهم لأداء وظائف وأعمال قيادية محددة في الدولة، لحاجتها إليهم، فالواجب أن يكونوا بقدر الحاجة كما ونوعا. أما كمًّا، فمن حيث التقيد بالعدد، فإذا كنا محتاجين إلى 15 وزارة لا يجوز أن نجعلها 20 مثلا، بحيث تكون الخمسة الزائدة فقط إرضاء لقبيلة أو جهة أو منطقة، وأقل ما يُمكن أن توصف به هذه الزيادة ـ غير المحتاج إليها ـ أنها عبث، ولو قبلنا هذا لوجدنا أنفسنا أمام من يُطالب بحصة لفشلوم وحصة لزاوية الدهماني وحصة للسياحية وحصة لتاجوراء، بحجة أنهم جميعا قدموا للثورة، وحينها ليس للقائمة نهاية … قد يقول قائل: إن مراعاة الجهة في الوقت الحاضر مطلوب لجمع الكلمة، أقول: نعم، مراعاة ذلك مطلوب جمعا للكلمة، لكن بشرط عدم الإخلال بالمعيار الأصلي للاختيار، وهو أن تكون التعيينات بقدر حاجة البلد، مع الأمانة وتوفر الكفايات القادرة على القيام بالعمل في هذه الجهة أو تلك، أما مع الإخلال بالمعيار الأصلي، فالتعيينات التي لا حاجة لها، خطأ يجب أن نترفع عنه، فيه إهدار للمال العام، وإهدار للطاقات، وترسيخ وتعميق للقبلية المقيتة والجهوية. ومن حيث النوع، فلا يجب أن ننشئ من الوزارات إلا ما نحتاج إليه فعلا وتمليه علينا مصلحة الوطن والوطن وحده، دون التفات إلى إرضاء أحد أيا كان، فإذا كانت البلد مثلا ليست بها بطالة، فلا نحتاج إلى وزارة نسميها وزارة العمل، ولا ينبغي أن نخضع في هذا أو في غيره إلى أي ضغط خارجي أو داخلي، وفي بعض الأحيان هذا الضغط الخارجي أو الداخلي لا يكون مباشرا، وإنما يكون بمبادرة منا وبأيدينا لإبداء حسن النية تجاه من يمارس الضغط علينا، فنعمل لأجله شيئا لا يكون من قناعاتنا ولا في مصلحة بلدنا، وإنما من أجل ألا يقال عنا إننا لسنا في المستوى المطلوب من التحضر أو الديمقراطية، وضعفُ المسلمين اليوم كثيرا ما أوقعهم في مثل هذه التنازلات، سببها شعورهم بالضعف أمام عدوهم، فيقومون بهذه التنازلات حتى لا يكونوا متهمين بالتخلف!!
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني 21 شوال 1432 هجري الموافق 20 سبتمبر 2011 |