الخطط الأمنية وعنق الزجاجة
الخطط الأمنية وعنق الزجاجة
بسم الله الرحمن الرحيم
لا يختلف اثنان على أن الأمن لا يتحقق بدونه شيء، وكل يوم يتأخر تكثر معه الخسائر، ويزداد الأمر سوءا وتعقيدا، هذا محل اتفاق، لكن السؤال: كيف ننقل هذا من الخطط والقول إلى التنفيذ والعمل؟، يقول المسئولون إن تأخرهم في ذلك هذه المدة كلها إنما هو لإحكام الخطط وإعداد البرامج، لتكون محكمة وبمعايير عالية، لكن المراقب لما يجري يقول: ما تفيد الخطط المحكمة بعد أن تكون جيوش ملوك الحشيش وعصاباته قد تجيشت، والتحالفات المريبة قد انعقدت، وشبكات التجسس العالمية بسبب الفراغ الاستخباراتي والأمني قد نصبت؟! والآثار السلبية لتأخر تحقيق الأمن صارت هما ملازما لكل مواطن مخلص لبلده، ومنها ما يلي: 1 ـ تأخر بتأخره بسط سلطان الدولة على ربوع الوطن، وتأمين الحدود من المتسللين والمهربين للسلاح وغيره من خيرات البلد وثرواتها، من الذهب والعملات الأجنبية، والمعدات والآلات، وإدخال محلها المحرمات من الخمور والحشيش، والمفسدين للأخلاق والمفسدات، والمتسللين من أجهزة وعملاء المخابرات. 2 ـ ملوك تجار الحشيش يشترون ضعاف النفوس، ويشترون معهم أسلحتهم بمبالغ عالية، مهما دفعت الحكومة حين تطبق مشروعها لن تقدر على منافسة مرتباتهم العالية في السوق. 3 ـ المعروف أن نقطة الضعف في الشبكات الاستخباراتية الخارجية لاختراقها من قبل الأمن الوطني ومداهمتها ـ هي قبل وأثناء تأسيسها، أما إذا تأسست وتربعت، فاختراقها لن تقدر عليه أي خطة محكمة إلا بعد دفع ثمن باهض. 4 ـ التحالفات القبلية التي لا تخلوا من عصبية، والتي حمدنا الله تعالى أن أمات من كان ينفُخ فيها ويلعب عليها، بدأت رائحتها التي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنها: (دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) تفوح وتلوح. 5 ـ انقطاع التيار الكهربائي المتزايد المتكرر في الأسبوعين الأخيرين سبب قلقا كبيرا، رجع بذاكرة الناس إلى تلك الأيام العصيبة، حين كانت كتائب القذافي تقصفهم، وكذلك خدمات الهاتف النقال صار انقطاعها طويلا وخدماتها ضعيفة، وتهرب عنها التغطية لساعات طويلة، ربما كان من أسبابها أن هذه الشبكات الكهربائية والهاتفية تحتاج إلى صيانة دورية مستمرة تحت وطأة التعديات على كوابلها لغياب الأمن، وأماكن صيانتها أيضا متباعدة نائية، وكل جهة في هذه المناطق النائية ترتكز بها كتائب، الأمر أمرها والنهي نهيها، والبلد محتاجة إليهم بصورة أو بأخرى لغياب أمن الحكومة الذي لا بد منه وذلك لتتوفر للقائمين بالصيانة – سواء كانوا من الليبيين أو من الأجانب – الحماية الكافية، وإلا فما تفسير أن تكون خدمات الكهرباء والهاتف قبل شهر أفضل منها الآن! 6 ـ المصالحة الوطنية التي كثر الكلام عليها ولم يتحقق منها إلا مسكنات آنية، تعود بعدها إلى الاشتعال كلما ضعف مفعول المسكن، والسبب أننا نعالج الأعراض ولا نعالج الأسباب، لأن علاج الأسباب متوقف هو أيضا على الأمن، والأمن متأخر، ونحن حين ندعوا إلى المصالحة نسبق الأحداث، فالله تبارك وتعالى كلما أمر بالعفو ورغب فيه سبقه بالأمر بالعدل والإنصاف، ليبين لنا أن المصالحة والعفو لا يتمان إلا بعد تحقيق العدل، فقوله تعالى: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) جاء بعد قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) (المائدة آية 45) وقوله تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى آية 40) جاء بعد قوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (الشورى آية 40) وأمر الله تعالى بالإحسان بعد أن أمر بالعدل أولا، فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) (النحل آية 90) ، وهكذا. والعدل لا يتحقق إلا باتباع خطواته المعتادة مع كل متهم، وهي أن يحقِّقَ معه تحقيقا مهنيا شفافا، وأن يُحال إلى قضاء نزيه عادل، يأمن فيه القاضي والمحقق على نفسه، لا قاض ينتظر الخصومُ حكمَه خلف الباب مسلحين، لينظروا بما يحكم، فرجع الأمر إذا إلى الأمن مرة أخرى. ومع أن الأمن على ما ذُكر من الأهمية، فإن الخطوات التي اتخذت في تحقيقه من الحكومة بطيئة، تخرج من عنق زجاجة، إن لم تكن من سم الخياط! والباحث عن أسباب هذا البطء قد يجد منها: 1 – عدم تحديد الاختصاصات والمسؤوليات بين الحكومة والمجلس الوطني الانتقالي، فتَدَخُّلُ كل واحد منهما في اختصاص الآخر جعل الجهود تسير في مسارات مختلفة قد تتقابل وتتعارض، بدل أن تتعاون وتتجاوب، ولا سبيل لتجنب ذلك وتفاديه إلا بأن يكون عمل المسئولين في الدولة مقيدا باللوائح وعلى وفق القانون، لا بالاجتهادات الفردية، ومن يخالف ذلك يتحمل مسئوليته، فإصدار القرارات ورسائل التكليف والتعيينات دون رجوع إلى القانون لمعرفة الاختصاص، خطأ فادح، القانون يقضي عادة أن تكون الحكومة جهاز تنفيذ، والمجلس الوطني الانتقالي جهاز رقابة، أو جهاز تشريع مؤقت لما هو ضروري في الوقت الحاضر من إجراءات، ليس فيها قانون سابق، أو فيها قانون يعارض أهداف الثورة، وذلك إلى حين الوصول إلى الانتخابات وإقرار الدستور، فليس للمجلس الوطني الانتقالي سلطة تنفيذية، أمنية أو غير أمنية مع الحكومة، فهذا التداخل هو أحد الأسباب – وليس كلها – التي جعلت قرارات التحول من الثورة إلى الدولة تمر بعنق الزجاجة. 2 ـ ربما كان من أسباب التردد وبطء قرارات الحكومة غياب الخبرة والاستشاريين، فإن ما تمر به البلد هي أزمات غير معتادة، ولا سهلة، بل هي بالغة الصعوبة والتعقيد، لعوامل عديدة منها انتشار السلاح، وهيمنة المرجعية القبلية المتحكمة وغير المنصفة أحيانا – شئنا أم أبينا – والتكتلات التي صارت تكوّن مراكز نفوذ على الأرض، تفرض لنفسها هيمنة تؤثر في اتخاذ القرار، حتى حلت في بعض تجاوزاتها محل اللجان الثورية البغيضة. 3 ـ وجود قوى أخرى لا تخفي دعمها لمراكز القوة التي تشكلت، وتشكيكها في أداء الحكومة، ومؤسسات الدولة، مع وجود صدى لها من المتضررين من الثورة، خوفا من فقد مناصب، أو فوات استغلال نفوذ لتكوين ثروات. فوجود هذه القوى والتكتلات، جعل صاحب القرار يتردد ويتردد، ولكن إلى متى؟ المخرج من هذا كله للحكومة: 1 ـ أن تستعين بهيئات استشارية من متخصصين وذوي الخبرات في إدارة الأزمات، فإن الله تعالى يقول: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النحل آية 43). 2 ـ الحزم في إصدار القرار، وتحمل مسؤولياته، وعدم التردد خوف الخطأ، فإن كل من يعمل قد يخطئ، ثم يصحح خطأه، أما الذي لا يخطئ، فهو العاجز الذي لا يعمل. قد يقول قائل إن التأخر والبطء في اتخاذ القرار من الحكومة لحل مشكلة الأمن مبرر، وذلك لقلة المال وفراغ اليد، فإن خزينة الدولة في الشهور الماضية لا تتحمل قرارا بتنفيذ خطتها لاستيعاب الثوار، وضمهم إلى الدفاع والداخلية، أو تأهيلهم في مجالات أخرى، فإنها لا تقدر على ذلك إلا إذا توفرت لها الأموال، وإلا كانت قراراتها حبرا على ورق. أقول: إن الثوار الآن يريدون شرعية، ولا يريدون مالا، فإنهم يُقدِّرون عجز خزانة الدولة في الوقت الحاضر عن النفقات الكبيرة، التي يتطلبها مشروع استيعابهم في أجهزة الأمن، أو في غيرها، وهم كما كانوا قادرين في الماضي لعدة شهور على حفظ الأمن دون مرتبات، قادرون أيضا على ذلك في المستقبل حتى لو تأخرت مرتباتهم شهورا متى ما صدر لهم قرار بالشرعية، لأن دَين الحكومة مضمون، بل حينها سيكون أداؤهم أفضل، لأمرين: 1 ـ لشعورهم بأنهم يمثلون الدولة، ومعنى ذلك أنهم حتى لو اضطروا إلى استعمال القوة لحفظ الأمن فلن يترددوا، لأنهم يقاومون من خرجوا عن الشرعية والقانون. 2 ـ شعورهم بالاستقرار، بالتخلص من الخوف من المجهول، والقلق على المستقبل بتأمين العمل والوظيفة، وما يؤمن له من المعيشة. فهل وصلت الذكرى؟
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني 02 صفر 1433 هـ الموافق 27 / 12 / 2011 |