بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (2074)
ورد إلى دار الإفتاء الأسئلة التالية:
حكم من ينكر مس الجان
السؤال الأول: ما حكم تمكين من ينكر المسَّ والعين من الوعظ بالمساجد وتدريس الناس، وما حكم الصلاة خلفه؟
حكم من يتعامل مع السحرة والمشعوذين
السؤال الثاني: ما حكم إمامة من يتعامل مع السحرة والمشعوذين، أو يذهب لقبور الصالحين، ويسألهم تفريج الكربات، وجلب المنافع والمسرات، أو يحلف بغير الله تعالى، وتكليفه بالوعظ والإرشاد في المساجد؟
حكم الوعظ والإرشاد من غير المتخصصين في العلوم الشرعية
السؤال الثالث: ما حكم أن يتصدي للوعظ والإرشاد المتخصصون في اللغة العربية، أو غيرها، من غير المعروفين بالعلم الشرعي، وإنما لهم اطلاع بسيط على الكتب، وزادُهم من العلم قليل، وكذلك ممن تلبسوا ببعض المخالفات؛ مثل حلق اللحية أو الغيبة أو غيرها؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
الجواب عن السؤال الأول:
لقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن الجن يوسوس للإنسان ويتخبطه، ولم يخالف في ذلك إلا طوائف من أهل البدع، من المعتزلة والجهمية، قال الإمام أبو الحسن الأشعري: “وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه، خلافا للمعتزلة والجهمية” [الإبانة في أصول الديانة:20/1]، وقال الإمام ابن تيمية: “ليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجن في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر ذلك، وادعى أن الشرع يكذب ذلك، فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك” [مختصرالفتاوي المصرية:49/2]، وقد دلت نصوص القرآن والسنة على ذلك، قال الله تعالى: )الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ(، ومن السنة حديث عثمان بن العاص الثقفي رضي الله عنه قال: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسيان القرآن، فضرب على صدري بيده، فقال: (يا شيطان؛ اخرج من صدر عثمان)، فعل ذلك ثلاث مرات، وفي رواية قال: لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاتي، حتى ما أدري ما أصلي!! فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ابن العاص؟) قلت: نعم يا رسول الله! قال: (ما جاء بك؟) قلت: يا رسول الله عرض لي شيء في صلاتي، حتى ما أدري ما أصلي! قال: (ذاك شيطان، ادنُه) – أي: اقترب – فدنوت منه، فجلست على صدور قدمي، قال: فضرب صدري بيده، وتفل في فمي، وقال: (اخرج عدو الله!)، فعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: (الحق بعملك) [ابن ماجه:(3548)]، وصححه البصيري في “مصباح الزجاجة”:[(36/4)].
ولا يحكم على منكر المسّ بالكفر والردة، بل يعنف عليه وينصح، ولا ينبغي أن يمكَّن من التدريس والإمامة بالناس، ويوجه ويبين له الحق بدليله، لعله يرجع إلي الصواب، والصلاة خلفه صحيحة مع الكراهة؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلُّوا خلفَ كلّ بر وفاجر) [الدارقطني:57/2، وسنده ضعيف لكن معناه صحيح]، قال الخرشي رحمه الله: “إنَّ الْمُعْتَمَدَ صِحَّةُ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ كَمَا فِي ابْنِ غَازِيٍّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا يَأْتِي مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ” [شرح الخرشي:391/4].
الجواب عن السؤال الثاني:
إتيان السحرة والمشعوذين وسؤالهم والاستعانة بهم، من أعظم المنكرات، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أتى كاهنا أو عرافًا فسأله، لم تُقبل منه صلاة أربعين يومًا) [مسلم: 2230]، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أتى كاهنا أو عرافا فسأله، فصدَّقه، فقد كفر بما أنزل على محمد) [مستدرك الحاكم: 88/1، وقال على شرطهما ولم يخرجاه].
والذهاب لقبور الأولياء، وسؤالهم تفريج الكربات، وجلب المسرَّات، لا يفعله إلا جاهلٌ بالتوحيد، غافلٌ عن مقام ربِّه، وما يستحقه وينفرد به، وما يقدر عليه وحده سبحانه دون سواه، ومن يفعل شيئًا من هذا الظلم والإثم الغليظ، ويتجه بالسؤال إلى الموتى هو على خطر عظيم في إيمانه وعقيدته، فلا يطلب شيء مما ذكر إلا من القادر عليه وهو الله سبحانه وتعالى لا من الأموات ولا من غيرهم ولا يحتاج إلى واسطة، قال الله تعالى: )وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ( [البقرة: 186]، وفي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) [مسلم: 2985].
والدعاء وسؤال تفريج الكربات وسؤال المسَّرَّات من أخص أنواع العبادة، فإذا الْتُجِئَ فيه إلى غير الله كان صاحبه مستحقًا من الله الإعراض والترك كما جاء في الحديث، ومن فعل شيئا من ذلك، ولم يتب، يجب أن لا يَؤُمَّ الناس، ولا أن يكون قدوة لهم على المنابر، ومعلما في المساجد، والواجب نصحه وبيان الحق والصواب له.
والحلف بغير الله منهي عنه؛ ففي صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفا فليحلف بالله) [1647].
الجواب عن السؤال الثالث:
لا يُشترط التخصص الأكاديمي في الشريعة للوعظ والإرشاد وتعليم الناس، وإنما الواجب إبلاغ أحكام الشريعة التي يعلَمها الإنسان كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) [البخاري:384].
وتلبُّسُ بعضِ الوعاظ ببعض المعاصي والذنوب، لا يمنعهم من إبلاغ أحكام الله ورسوله، التي يعلمونها، فمن يسلم من بعض الذنوب والمعاصي؟! وليست العصمة مطلوبة لهذه الوظيفة، وإنما المطلوب عدم المجاهرة بالعصيان وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) [الترمذي:2499].
ولكن التصدر للتدريس وتعليم الناس يحتاج إلى مختصين في العلوم الشرعية، مأمونين في دينهم، يربون الطلاب على صِغار العلم قبل كِباره، عَملهم أكثر من عِلمهم، وهذا معنى العالم الرباني.
وبالجملة؛ فالوعاظ والعلماء والخطباء محتاجون كغيرهم للنصيحة، والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، وتخوُّلِهم بالتذكير بين الحين والآخر، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
محمد الهادي كريدان
أحمد محمد الكوحة
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
9/المحرم/1436هـ
2014/11/2م