بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (4467)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية الأسئلة التالي:
جاء في وثيقة التحبيس: “وقف وحبّس… كامل الحوش والعلي الساكن بهما الآن على نفسه مدة حياته مقلدا مذهب أبي حنيفة… ثم بعد وفاته يكون وقفا على ذريته ذكورا وإناثا… وعلى أولاد أخيه الذين هم تحت وصاية عمهم المحبس… وعلى زوجته… لها الثمن كإرثها الشرعي، ثم بعد وفاة كل واحد منهم يرجع استحقاقه لفرعه ذكورا وإناثا للذكر مثل حظ الأنثيين وهكذا لذريتهم وذرية ذريتهم، ومن مات من المستحقين من غير فرع رجع استحقاقه لورثته كالإرث الشرعي الذين هم من ذرية المحبس، ولا يدخل الزوجات إلا إذا كان من نسل المحبس، وهكذا إلى آخر العقب… فإذا انقرضت ذرية الواقف… يرجع وقفا على كتاب جامع عبد الحفيظ… فإن لم يكن موجودًا فلجمعية تحفيظ القرآن الكريم… فإن لم تكن فإدارة الأوقاف بطرابلس الغرب وتوزعه على جمعية القرآن العظيم البؤساء منهم”.
الأسئلة هي:
ـ ما حكم هذا التحبيس؟
ـ وما هي الطريقة التي تتم بها الاستفادة من الحبس، سواء الأحياء منهم أو الأموات؟
ـ وهل بنات المحبس اللاتي تزوجن من غير نسل المحبس تشملهن وثيقة التحبيس، ويمكنهن الاستفادة من الحبس؟
ـ ما الحكم في حالة أراد أحد المحبس عليهم الاستئثار بالحبس وشراءه من المحبس عليهم، على أن يشتروا أرضًا أو منزلًا يتم وقفه للمحبس؟
ـ قام أحد المحبس عليهم وهو المستأثر بالحبس بصيانة الحبس، فكيف يسدد له قيمة صيانته؟ وهل تحسب القيمة عن الصيانة الأساسية والتكميلية، أو عن الأساسية فقط؟ ومن أين تصرف قيمة صيانة الحبس؟ ومن يتولاها شرعًا؟
ـ قام أحد المحبس عليهم وهو ابن أخ المحبس بالتنازل عن مستحقاته من الريع لأبناء المحبِّس، فهل هذا التنازل صحيح؟ وهل تنازله هذا يكون شاملا لحصته من جهة عمه (المحبِّس)، وحصته من جهة أمه (زوجة عمه بعد وفاة أبيه، وأحد المحبَّس عليهم)؟ علما أن التنازل كان قبل وفاة أمه (زوجة عمه -المحبِّس).
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فالتحبيس على النفس باطلٌ عند جماهير أهل العلم؛ لأنه مما لا نفع فيه، ولا قربى ترتجى من ورائه، وليس فيه سوى التحجير على النفس، قال الخرشي رحمه الله: “… الْحُبْسُ عَلَى النَّفْسِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَجَرَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ” [شرح الخرشي على المختصر: 7/84]، ولكن لما نصَّ الواقف على تقليده لبعض المذاهب المعتبرة لم يصحَّ نقضُه، ويمضي على ما فيه ويكون التحبيس صحيحاً نافذاً.
أما كيفية الاستفادة من الحبس، فيستفاد منه على ما شرط المحبِّس إن وجد، وإن لم يذكر كيفية معينة فيستفاد منه بالسكنى إن كان يتأتى ذلك، وإلا فيؤجر وتقسم غلته أو يُقترع بينهم من يسكن فيه ويدفع الكراء للباقي، قال اللخمي رحمه الله: “الْحُبُسُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: حُبُسٌ الْمُرَادُ مِنْهُ غَلَّاتُهُ كَالثِّمَارِ… فَمَا اجْتَمَعَ مِنْ ذَلِكَ قُسِمَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي حُبِّسَ لَهُ، وَالثَّانِي: الدِّيَاُر تُوقَفُ للسُّكْنَى…فَهَذِهِ يُنتَفَعُ بَأَعْيَانِهَا، تُسْكَنْ هَذِهِ…فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُتَّسَعٌ لِجَمِيعِهِمْ وَكَانَ الْحُبُسُ عَلَى مُعَيَّنِينَ…كَانَ لِجَمِيعِهِمْ…فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ مَحْمَلٌ لِجَمِيعِهِمْ اكْتُرِيَتْ وَقَسَمُوا غَلَّتَهَا أَوْ اقْتَرَعُوا عَلَى أَيِّهِمْ يَسْكُنُ وَيَدْفَعُ إِلَى الآخَرِ نَصِيبَهُ مِنَ الْكِرَاءِ” [التبصرة:7/3439].
وأما استغلال الحبس والاستفادة منه والاستئثار به من قِبَل شخص واحد محبَّس عليه دون غيره من المحبَّس عليهم، وكذلك إخراج بنات المحبِّس ومنعهم من الاستفادة من غلة الحبس -مع أن المحبِّس نص في الوثيقة باشتراكهم في الحبس-فلا يجوز؛ لأنه من التعدّي، وأكل أموال الناس بالباطل؛ قال الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ﴾ [النساء:29]، ولأنه من التبديل والتغيير في وصية المحبِّس، قال الله تعالى: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:181]، وعلى المتعدي التوبة والخروج من الحبس فوراً، أو يتفق مع المحبَّس عليهم باستئجاره منهم ورضاهم بذلك.
وأما شراء أحد المحبَّس عليهم الحبسَ فهو أيضا من التعدي على الحبُسِ وهو لا يجوز، قال الله تعالى: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:181] وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه، في أرض أراد أن يُحبِّسها: (… لاَ يُبَاعُ، وَلاَ يُوهَبُ، وَلاَ يُورَثُ) [البخاري:2764]، وقال ابن أبي زيد رحمه الله: “وَلاَ يُبَاعُ الحُبُسُ وَإِنْ خَرِبَ” [الرسالة: 119].
وأما من يتولى القيام بشؤون الحبُس من مرمّته وصيانته وغيرها إن لم يجعل الواقف للحبس ناظراً يتولى أمره، فتكون للحاكم يعين من يراه مناسبا، وتكون أجرته من ريعه، قال الحطاب رحمه الله: “قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَالنَّظَرُ فِي الْحَبْسِ لِمَنْ جَعَلَهُ إلَيْهِ مُحَبِّسُهُ، الْمُتَيْطِيُّ يَجْعَلُهُ لِمَنْ يَثِقُ بِهِ فِي دِينِهِ فَإِنْ غَفَلَ الْمُحَبِّسُ عَنْ ذَلِكَ كَانَ النَّظَرُ فِيهِ لِلْحَاكِمِ يُقَدِّمُ لَهُ مَنْ يَرْتَضِيهِ وَيَجْعَلُ لِلْقَائِمِ بِهِ مِنْ كِرَائِهِ مَا يَرَاهُ سَدَادًا عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِ”[مواهب الجليل:6/37] فعلى الموقوف عليهم أن يرفعوا دعوى إلى القاضي ليعين من يتولى القيام بشؤون الحبس.
وأما صيانة الحبس فتكون من غلته، إن كان مؤجراً، وتكون على المحبَّس عليه بالتخيير بين الإصلاح والإكراء له، قال الدسوقي رحمه الله: “عَنْ اللَّخْمِيِّ أَنَّ نَفَقَةَ الْوَقْفِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ فَدُورُ الْغَلَّةِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْفَنَادِقِ مِنْ غَلَّتِهَا، وَدُورُ السُّكْنَى يُخَيَّرُ مَنْ حُبِّسَتْ عَلَيْهِ بَيْنَ إصْلَاحِهَا، وَإِكْرَائِهَا بِمَا تُصْلَحُ مِنْهُ” [حاشية الدسوقي:4/90].
وأما صيانة أحد المحبَّس عليهم للحبس من ماله الخاص فيُستفسر منه عن هذه الصيانة ما دام حيا، قال خليل رحمه الله: “وَإِذَا بَنَى الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ فِيهِ أَوْ أَصْلَحَ بِخَشَبٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَمْرُهُ لَهُ… أَيْ: فِي الْوَاقِفِ فَأَمْرُهُ لَهُ، فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَهُ فَهْوَ لَهُ يُورَثُ عَنْهُ وَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ وَقْفٌ فَهْوَ وَقْفٌ”[التوضيح:7/318]، فإن قال إنما فعلتها لنفسي لا لأن تكون وقفا، فيكون بذلك غاصباً للوقف ويرجع على المحبَّس عليهم بقيمة الصيانة والإصلاح، فيُقال يُعرض البناء قبل الإصلاح على من يؤجره بهيئته التي كان عليها كم يساوي فتحسب على الغاصب، وما زاده عن ذلك يخير فيه المحبَّسُ عليهم بين إعطائه القيمةَ منقوضاً وبين قلعه، قال الدردير رحمه الله: “الدَّارُ الْخَرِبَةُ يُصْلِحُهَا الْغَاصِبُ يُقَوَّمُ الْأَصْلُ قَبْلَ الْبِنَاءِ، أَوْ الْإِصْلَاحِ بِمَا يُؤَاجَرُ بِهِ لِمَنْ يُصْلِحُهُ فَيَلْزَمُ الْغَاصِبَ، وَالزَّائِدُ لِلْغَاصِبِ…(وَ)…(أُخِذَ) أَيْ مُلِكَ مِمَّا أُصْلِحَتْ بِهِ (مَا لَا عَيْنَ لَهُ قَائِمَةً) يَعْنِي مَا لَا قِيمَةَ لِعَيْنِهِ لَوْ انْفَصَلَ كَالزِّفْتِ، وَالْمُشَاقِّ، وَالْقُلْفُطَةِ. وَأَمَّا مَا لَهُ عَيْنٌ قَائِمَةٌ…خُيِّرَ رَبُّهَا بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهُ قِيمَتَهُ مَنْقُوضًا وَبَيْنَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِقَلْعِهِ” [الشرح الكبير:3/449] ،كما أن المحبَّس عليهم يرجعون عليه بكراء المدة التي أمضاها في الحبس غصباً وتعدياً منه، قال الدسوقي رحمه الله: “حَاصِلُ هَذَا الَّذِي رَجَّحَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ إنْ كَانَ عَقَارًا وَاسْتَعْمَلَهُ الْغَاصِبُ كَانَتْ غَلَّتْهُ لِرَبِّهِ فَيَلْزَمُهُ أُجْرَتُهُ إنْ سَكَنَ فِيهِ، أَوْ أَسْكَنَهُ لِغَيْرِهِ”[حاشية الدسوقي على الشرح الكبير:3/448].
أما تنازل أحد المحبس عليهم عن حصته من الحبس فجائزٌ بشرط أن يتنازل لمستحقٍ اشتمل على وصف المحبِّس قال الدسوقي رحمه الله: -في معرض كلامه على عدم صحة إعارة مالك الانتفاع لغيره-“يَجُوزُ لَهُ-مالك الانتفاع- أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهُ مِنْهُ لِغَيْرِهِ فَيَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الْغَيْرُ الِانْتِفَاعَ بِهِ حَيْثُ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ” [حاشية الدسوقي على الشرح الكبير:3/434]، وبما أن المتنازَل لهم من المستحقين فيصح التنازلُ ويمضي إلى أن ينقطعَ استحقاقه بوفاة المتنازِل، ثم بعد وفاته يرجع إلى ذرية المتنازلِ حسب ما ذَكر المحبِّس، وأما التنازل المذكور فلا يشمل حصَّته من جهة أمِّه لكون التنازل كان قبل وفاة أمه، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
(هذه الفتوى لا يحتج بها في النزاعات، ولا أمام القضاء، ولا تفيد صحة الوثيقة، لاحتمال أن لدى من ينازع فيها مقالا والدار لا علم لها به)
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
عبد الرَّحمن حسين قدوع
حسن سالم الشريف
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
07//رمضان//1442هـ
19//04//2021م