بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (4483)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
توفي الحاج م عن ابن وثلاث بنات، ومما تركه بيتٌ من طابقين، كان قد تنازل عن كامله لابنهِ، وسجله باسمه في السجل العقاري، وكان ابنه متزوجًا ويسكنُ في الطابق الثاني منه، ويقيم الأبُ بالطابق الأرضي، وبعد وفاة الوالدة انتقل الابن مع زوجته للطابق الأرضيّ، وسكن مع الوالد إلى أن توفي، وبعد ذلك أراد الابن بيع البيتِ، واعترضَ بعض الورثة، فبقي فيه إلى أن توفي الابنُ أيضًا، فكيف تتمّ قسمةُ البيت؟
الجواب:
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإنّ من تنازل عن شيء من أملاكه دون مقابل يعدّ تنازله من قبيل الهبة، ومن شرط تمام الهبة حصول الحيازة، قال ابن أبي زيد القيرواني: “وَلَا تَتِمُّ هِبَةٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا حُبُسٌ إِلَّا بِالحِيَازَةِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تُحَازَ فَهِيَ مِيرَاثٌ” [الرسالة:117].
والحيازة في العقار تكون برفع الواهب يده عنه بالكلّية، مع تصرّف الموهوب له في العقار تصرّفًا يدل على التملّك حال حياة الواهب، قال الرجراجي: “وَأَمَّا الدُّورُ… فَإِنْ كَانَ الوَاهِبُ سَاكِنًا فِيها، أَوْ فِي غَيْرِهَا فَفَرّغَهَا، وَمَكَّنَ المَوْهوبَ لَهُ مِنْ حَوْزِهَا، فَإِنْ فَعَلَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الحَوْزِ صَحّتْ لَهُ الهِبَةُ؛ مِثْلَ أَنْ يَسْكُنَ فِيهَا أَوْ يُكْرِيَهَا مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ يُسْكِنَ فِيهَا مَنْ شَاءَ بِأَيِّ وَجْهٍ شَاءَ، أَوْ أَخَذَ مَفَاتِيحَهَا وَأَغْلَقَهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ حِيَازَةٌ تَصِحُّ بِهَا الهِبَةُ لِلْمَوْهُوبِ فِي حَيَاةِ الوَاهِبِ وَصِحَّتِهِ. وَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا عَمَلًا، وَلَا أَذِنَ إِلَيْهَا بِوَجْهٍ، وَتَرَكَهَا مُهْمَلَةً غَيْرَ مُغْلَقَةٍ، وَلَا انْتَفَعَ بِهَا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ حَتَّى مَاتَ الوَاهِبُ أَوْ مَرِضَ لَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الأَرْضِ التِي لَمْ يَزْرَعْهَا فِي إِبّانِ زِرَاعَتِهَا حَتّى مَرِضَ الوَاهِبُ أَوْ مَاتَ، فَإِنَّ الهِبَةَ فِيهَا بَاطِلَةٌ” [مناهج التحصيل: 9/369].
فإن كان البيت الموهوب المشتمل على طابقين يستقلّ كلّ بمرافقه، وكان الموهوب له بالغًا رشيدًا وحاز أحدهما، نفذتِ الهبة فيما حازه، ويُنظر في غير المحوز؛ فإن كان يساوي ثلث جميع الموهوب في القيمة نفذت فيه الهبة أيضًا، وإن كان غير المحوز أكثر من الثلث رجع ميراثًا، يقسم على جميع الورثة، قال القاضي أبو القاسم ابن ورد -وقد سئل عمّن تصدّق بقرية وفيها أرض وكرم ودور فسكن منها دارًا، هل يصح الجميع وتكون الدار تبعًا للجميع، كالدار في الدور التي لها عدد إذ الصدقة بالجميع في مدة واحدة- قال: “أمّا إِنْ كَانَتِ -أي الصدقة- عَلَى مَنْ يَحُوزُ لِنَفْسِهِ فَسَكَنَ المُتَصَدِّقُ الأَقَلَّ جَازَ الجَمِيعُ أَيْضًا، إِنْ حَازَ المُتَصَدَّقُ عَلَيْهِمُ الأَكْثَرَ، وَإِنْ لَمْ يَحوزُوهُ بَطَلَ، وَإِنْ سَكَنَ الأَكْثَرَ وَحَازَ المُتصدَّقُ عَلَيْهِمُ الأَقَلَّ جَازَ لَهُمْ مَا حَازُوهُ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَمَشْهُورِهِ، وجلُّه اسْتِحْسَانٌ” [المعيار: 8/65].
عليه؛ فإن كان الحال ما ذكر في السؤال، ولم يرفع الواهبُ يدهُ عن كاملِ البيت، -وإنما حاز الابن الموهوب له الطابقَ الثاني منه فقط، واختص بالتصرف فيه تصرّفًا يدلّ على تملكه إياه، وبقي الواهب بالطابق الأرضي يستغلّه إلى حين وفاتهِ، وإن سكن معه ابنه وزوجته في آخر عمره- فيختص ورثة الابن بالطابق الثاني، وأما الطابق الأرضي فينظر في قيمته بالنسبة إلى مجموع قيمة الموهوب يوم الهبة؛ فإن كانت تساوي ثلث قيمة الهبة فأقلّ اختصّ به ورثة الابن أيضًا؛ لأنه صار تبعًا للمحوز، وإن كانت أكثر من الثلث فيكون الطابق الأرضي باقيا على ملك الواهب، ويصير ميراثا لجميع الورثة، بمن فيهم الابن، والله أعلم.
وصلَّى الله على سيّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
عبد العالي امحمد الجمل
حسن سالم الشريف
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
13//رمضان//1442هـ
25//04//2021م