هل تشرع هبة الأب لولده بشرط عدم دخول الموهوب له في الميراث؟
هبة باطلة لمعاوضة في نظير شيء مجهول
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (4699)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
جاء في وثيقة ما نصه: (أقرّ خ واعترف بأن والده منحه حقه كاملا والمتمثل في شقة بمنطقة ح ش والذي قد دفع ثمنها ولا يجوز لي مطالبة إخوتي بنصيبي من المنزل وأي عقارات أخرى يملكها والدي سواء كانت ثابتة أو منقولة باستثناء ما يملكه بزليتن، ثم توقيع المُقر وبصمته وشهادة الشهود عليه بذلك وتصديق المحرر على ذلك)، وجاء في عقد تمليك عقار، ما نصه: (تم الاتفاق بموجب هذا العقد بين كل من: 1- مصرف الادخار والاستثمار العقاري، 2- الأخ/ خ … المادة الثانية: اتفق الطرفان على تمليك العقار المبين أوصافه في المادة السابقة بثمن إجمالي قدره (73203.302) د.ل)، وبعد الاطلاع تبين أن الإقرار صدر من خ قبل اشتراء والده للشقة المذكورة، ثم إن خ المذكور باع الشقة المذكورة، وأعطى صكا لوالده قيمته مائة ألف دينار، أودعه في حساب أبيه، وأقر الورثة له بذلك، وادَّعَوا أن والدهم كان ينوي بيع بعض أراضيه ليرد المبلغ، غير أن المنية عاجلته، وأن خ كان يقول إنه يريد مساعدة أبيه بهذا المبلغ في علاجه، وأنكر خ ذلك، وادعى أن المبلغ المعطى كان لأجل تعهد الوالد رحمه الله بإبطال الاتفاق، الذي بموجبه حرمه من الميراث، فطلب مقابل ذلك إعطاءه مائة ألف دينار، فهل للمذكور خ مطالبة باقي الورثة بنصيبه من الميراث، ويعتبر الصك المتأخر تاريخه عن الإقرار دليلا على إبطاله، أم لهم منعه من الميراث؟
الجواب:
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أمّا بعد:
فهبة الأب لبعض بنيه شيئًا بشرط عدم دخول الموهوب له في الميراث باطلٌ شرعًا؛ لأنها معاوضة في نظير شيءٍ مجهول، وهو حصة الموهوب له من الميراث، قال ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله: “قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: عَن مُطَرِّفٍ، وَابْنِ الْمَاجِشُون: وَمَن تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ الْكَبِيرِ بِصَدَقَةٍ عَلَى أَن قَطَعَ بِهَا مِيرَاثَهُ مِنْهُ، فَإِن شَرَطَ ذَلِكَ فِي أَصْلِ الصَّدَقَةِ، فَالصَّدَقَةُ بَاطِلَةٌ، وَإِنِ اسْتَثْنَى ذَلِكَ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، فَالصَّدَقَةُ مَاضِيَةٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ” [النوادر والزيادات: 12/219]، وقال الحطاب رحمه الله عقب نقله ذلك: “قُلْتُ: أَمَّا بُطْلَانُ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ [الشَّرْطُ] فِي أَصْلِ عَقْدِهَا فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ مَجْهُولَةٌ فَتَأَمَّلْهُ” [تحرير الكلام: 406]، وحكم الصدقة والهبة واحدٌ في مثل هذه الشروط، قال التّسولي رحمه الله: “وَأَحْكَام الْهِبَة وَالصَّدَقَة سَوَاء إِلَّا فِي وَجْهَيْن. أَحدهمَا أَن الْهِبَة تعتصر دون الصَّدَقَة كَمَا يَأْتِي، وَالثَّانِي أَن الْهِبَة يجوز للْوَاهِب شراؤها وقبولها بِهِبَة بِخِلَاف الصَّدَقَة” [البهجة شرح التحفة: 2/394]، والواجب بعد العلم ببطلان الاتفاق المذكور بين الأب وابنه فسخه، بأن يرد الابن (خ) ما أعطاه له أبوه للورثة جميعهم، وهو واحد منهم، وفي المقابل يستحق نصيبه من ميراث أبيه، والموهوب في هذه المسألة هو المبلغ المدفوع (73203.302 د.ل) من قبل الأب، الذي اشترى به الشقة، وليست الشقة نفسها؛ لأن شراءها للابن من قبيل هبة الثمن لا المثمن، قال التسولي رحمه الله: “وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى دَاراً مَثَلاً وَأَشْهَدَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا لِابْنِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَّنَّ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الاِبْنِ فَإِنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ أَيْضاً، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَاهَا لَهُ بِمَالٍ وَهَبَهُ إِيَّاهُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَن يَحُوزَهُ لَهُ لِأَنَّهُ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ كَانَ مِلْكاً للِابْنِ فَلَمْ يَتَقَرَّرْ لِلْأَبِ عَلَيْهِ مِلْكٌ حَتَّى يحَتَاجَ لِلْحَوْزِ وَالثّمَنُ قَدْ حِيزَ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ، قَالَه فِي الْمَقْصد الْمَحْمُود وَغَيره. وَإِذا كَانَ هَذَا فِي الصَّغِير فَأَحْرَى الرَّشِيد كَمَا يَدُل لَهُ التَّعْلِيلُ” [البهجة شرح التحفة: 2/401].
وأما دفع الابن (خ) لأبيه مبلغًا قدره مائة ألف دينار، بعد بيعه للشقة المذكورة، فيحمل على ما قصده معطيها وهو خ؛ فإن قال: أعطيتها في نظير إبطال الاتفاق المذكور مع أبيه، فهو مصدق، بعد أن يحلف على ذلك؛ لأنّ دعوى بقية الورثة العطية لا تستند لبيّنةٍ أو دليلٍ، والقول قول المعطي، قال الدردير رحمه الله: “(أَوْ) يَقُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي بِشَيْءِ أَنْت (وَهَبْته لِي، أَوْ بِعْته) فَإِقْرَارٌ مِنْهُ وَعَلَيْهِ إثْبَاتُ الْهِبَةِ، أَوْ الصَّدَقَةِ، أَوْ الْبَيْعِ فَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ حَلَفَ الْمُدَّعِي فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ مَا بَاعَ اتِّفَاقًا وَفِي حَلِفِهِ فِي الْهِبَةِ خِلَافٌ”، قال الدسوقي رحمه الله: “هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْيَمِينِ هَلْ تَتَوَجَّهُ فِي دَعْوَى الْمَعْرُوفِ أَمْ لَا، وَظَاهِرُهُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ سَوَاءً كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي ادُعِيَتْ فِيهِ الْهِبَةُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ أَمْ لَا، وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ تَوَجُّهُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي إنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَائِزًا، وَإِلَّا فَلَا وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ صَاحِبُ التُّحْفَةِ” [الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3/402]، ولخ المذكور أن يرجع على الورثة بالزائد على ما دفعه والده في ثمن الشقة، وهو مبلغ (26796.698 د.ل)؛ لأن خ تنازل عن هذا الزائد رغبةً في استحقاق الميراث، ظانًّا أن الاتفاق الذي أقر بموجبه أنه لا يرث مع إخوته ملزمٌ، قال التسولي رحمه الله: “فِي نَوَازِل الزياتي فِيمَن سلم فِي شَيْء ظنا مِنْهُ أَنه لَا يسْتَحقّهُ ثمَّ تبين أَنه يسْتَحقّهُ فَإِن التَّسْلِيم لَا يلْزمه، وأمثال هَذَا مَا اتَّضَح فِيهِ الْعذر كَثِيرَة” [البهجة شرح التحفة: 1/93].
عليه؛ فإن كان الحال كما ذكر، فيستحق الابن خ نصيبه كاملًا من ميراث أبيه، ولا يجوز حرمانه من ذلك، ويعد ذلك تعديًا وغصبًا من قِبَلِ فاعله، وله أن يسترد من الورثة ما زاد من المبلغ الذي رده إلى أبيه على ثمن الشقة التي وهبها له أبوه، وبذلك تثبت الحقوق لأصحابها، ويلغى ما كان من الالتزامات المخالفة للشريعة وحكم ببطلانه، والله أعلم.
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
أحمد ميلاد قدور
حسن سالم الشّريف
الصّادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
02//ربيع الآخر//1443هـ
07//11//2021م