حتى لا تسرق الثورة
بسم الله الرحمن الرحيم
(حتى لا تسرق الثورة )
الحمد لله والصلاة، والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
فإذا أردت أن تعرف حقيقة أحد، وأن تضعه في ميزان النقد لتعرف صِدقَه من كذبه، وإخلاصه من غشه، وأمانته من عدمها، وعلمانيته من إسلامه، وهل هو من الثوار أم من اللجان، فلا تشغل نفسك بحاله الآن، ولا بما يقوله اليوم، فهو اليوم كخاطب العروس يظهر المحاسن واللياقة،
ويتجمل بالأمانة والديانة، ويتكلم بالعفة والصيانة، ويتخلق بأخلاق الثوار، ويرفع الأعلام والشعار، ويتكلف كل ما تريده العروس، حتى يكون منها في حضوة، ومن قلبها على مودَّة
عندما كانت كلمة الحق لدى سلطان جائر تخطف الأرواح، كان الناس إمَّا ساكت وإمَّا مُوال، ومن سكت خوفًا على نفسه فهو معذور وإن حُرم السبق، ومن كان يومها مواليًا، فليس له اليوم أن يتقدم الثوار، ويرفع الشعار، هذا هو الحق والميزان )وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ( )أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ( )أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ( الثوار يوم أن كان السَّيف على الرقاب، والموت ينتهب الرجال، كانوا بضعة عشرات من الآلاف وذلك لمَّا كانت الثورة مغرما، فلمَّا تمَّ النصر، وتحولت الثورة مغنما صارت الأعداد بضع مئات من الآلاف، لا بضع عشرات
إذا أردت ألا تَظلم أحدًا ولا تَظلم نفسك، فانظر إلى من تريد معرفة حقيقة أمره، يوم أن كان الفساد شارعًا أبوابه، والباطل ناصبًا شراكه، والدِّين ممنوع، والحرام مشروع، والصدق كاسد، والنفاق رائج، انظر إليه قبل (17 فبراير) أين هو كان من هذا كله؟ وما منزلته فيه؟ فما ينبئك عنه حاله آن ذاك فتلك هي حقيقة أمْرِه، لا حقيقة له سواها، فمن كان يومها أمينًا فهو اليوم أمين، ومن كان يومها ثائرًا فهو اليوم ثائر، ومن كان يومها مسلمًا ملتزما بأحكام الإسلام فهو اليوم مسلم، ومن كان علمانيا فهو اليوم علماني وهكذا .
لا أحتاج أن أذكرك ـ أيها الحريص ـ بالقذافي وانقلابه، أول أيامه، لم يزل يتملق الناس ويتمسكن، حتى تمكن، لعب منذ الأسبوع الأول من انقلابه بورقة الإسلام والدِّين، والحرص على المظلومين والمستضعفين، فأصدر أمره بمنع الخمور، ومداهمة الخمارات والفجور، فكسر في الطرقات دنانها، وأراق شرابها، وأعلن أنه عدو للأجنبي لا يقبل له وجودا، حتى لافتات المحلات منع أن تكون بحروف أجنبية، بل بلغة الضاد العربية، وزعم أنَّه أجلى الأمريكان من الملاحة في الغرب إلى طبرق في الشرق، كل ذلك خلال الأسابيع الأولى من توليه، حتى لا يشك شاك أنه وطني أتى للبلد بالتحرير والدين، وللفقراء بالعيش الرغيد، والمستقبل السعيد، ومحاربة الفساد، وتحرير المظلومين من الاستعباد، وما أن استقام له الأمر، واستتب له الأمن حتى قلب لأهله ظهر المجن، فلم تر الديار قط فسادا كفساده، نهبًا للمال، وإذلالا للرجال، ولا عداء للدين كعدائه، تدنيسا للمقدسات، وإنكارا للمسلَّمات، ولا استعبادا للمستضعفين، وقهرا للمظلومين، في سجون ظاهرة وخفية، ومشانق وإعدامات سرية وعلنية، واشتد الخطب وفدح حين قال أصبح الصبح.
تقول من تاب تاب الله عليه، والله يقبل التوبة من عباده؛ أقول نعم، لكن على من تاب، إن لم يثقل نفسه بحقوق العباد، أن يصلي مع الناس، لا أن يؤمهم، وأن يسهم معهم في البناء لا أن يقودهم، فحذار من الغفلة
معيار التَّدين والوطنية الذي لا يخطئ هو ما قلت لك ما قبل (17 فبراير) لا بعدها.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة … وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الصادق بن عبدالرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
الثلاثاء 29- ذو القعدة 1433 هـ
16 أكتوبر 2012 م