(المُوفَدُونَ للدراسةِ وهجْرةُ الخِبراتِ الليبيّة)
بِسْم الله الرحمن الرحيم
(المُوفَدُونَ للدراسةِ وهجْرةُ الخِبراتِ الليبيّة)
بعدَ حمدِ الله، والصلاةِ والسلام على رسول الله، وعلى آلهِ وصحبه:
مِن المعلومِ أنّ المسلمَ مطالَبٌ بالوفاءِ بالعقودِ والشروط، التي يُلزِمُ بها نفسَه تجاهَ غيرِه، وبالخصوص عندَما تُرتّبُ عليهِ العقودُ التزامًا، أو القيام بأعمالٍ، عدمُ الوفاءِ بها يَضرّ بالآخرين.
لذا؛ فإنّ المبعوثينَ للدراسةِ بالخارجِ، على حسابِ الحكومَة، مطالَبونَ بالتقيّدِ باللوائحِ، التي التزمُوا بِها عندَ التعاقُدِ على الإيفادِ، ومِن بينِها اشتراطُ رجوعِ المبعوثِ إلى بلدِه، بعدَ الانتهاءِ مِن الدراسة.
ومخالفةُ اللوائحِ في هذا الشأنِ لا تَجوزُ شرعًا؛ لِما في ذلكَ مِن عدمِ الوفاءِ بالعقدِ، والإخلالِ بالشروطِ.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة:1]، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (المسلِمونَ على شروطِهِم) [أبوداود:3594].
وهناك أمرٌ آخرُ، له ارتباطٌ ببقاءِ الموفَدين بالخارج؛ هو بقاءُ الخبراتِ الليبية للعمل خارجَ ليبيا، في تخصصاتٍ كثيرٌ منها تتمتُّع بكفايةٍ عالية، وشهرةٍ دوليةٍ؛ بلادُهم وأهلُهم داخلَ ليبيا في حاجةٍ شديدةٍ لها، يتطلّعونَ إليهم، ليسَ فقط في تخصصِ الطبّ، أو الاقتصادِ والمال، أو الاتصالاتِ والتقنيةِ، بل حتى في مجالِ الدعوةِ والعلمِ الشرعي.
سدّ حاجةِ البلدِ في أيّ تخصصٍ مِن التخصصاتِ التي يحتاجها الناس؛ هو مِن فروضِ الكفاية، التي يجبُ على طائفةٍ من أهلِ البلدِ أنْ يقوموا بها، ويسدّوا الحاجةَ إليها، قَالَ الله تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) التوبة 122، قال تعالَى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104].
وهذا وإنْ كانَ في الدعوةِ والتفقّه في الدين؛ فغيرُه من التخصصات، ممّا لا تقومُ ضروراتُ حياةِ الناسِ إلا بهِ، مثلُه في الحكمِ؛ لأنّ القيام بضرورياتِ الحياة، التي يتوقف عليها حفظُ دينِ الناس وأرواحهم وأموالهم، فرضٌ واجبٌ، ومِن المقاصدِ القطعيةِ في الدين، وكل ما لَا يتمّ الواجبُ إلّا به فهو واجبٌ.
وليبيا تعاني مِن نقصٍ حادٍّ في الأيدي الكفية، الأمينةِ الناصحة، أو مِن فقْدٍ كاملٍ في بعضِ التخصصاتِ الدقيقة.
في الطب والاقتصادِ والمال – وربما غيرها – وهذا النقصُ يعرضُ الأرواحَ للهلاكِ، والأموالَ للضّياعِ، واستمرارُه يعرضُ البلدَ بأسرِه إلى عواقبَ وخيمةٍ، وضرر محقق.
فكلُّ تخصصٍ لا يتوفرُ داخلَ البلدِ العددُ الذي يسدّ حاجته؛ يتعينُ على عددٍ مِن الخبراتِ المهاجِرة مِن أهلِه الرجوعُ؛ لسدِّ النقصِ فيه، وإلَّا يكونُ جميعُ أهلِ ذلك التخصُّص آثمينَ؛ لأنّ الفرضَ الواجبَ على الكفايةِ، يتحول من فرض كفاية إلى فرض عين، على كلِّ المُخاطَبين بهِ – وهم أهلُ لاختصاصِ – إذا لم يوجدْ منهم العددُ الكافي في بلدِهم، ويصيرُ تخلفهم عنه كتخلفِهِم عن فرائضِ الأعيانِ، يوقعُهم جميعًا في الإثمِ.
أما إذا قامتْ به طائفةٌ منهم، سدَّت الحاجةَ المطلوبة؛ سقط الطلبُ والإثمُ عن الباقين، وكانوا جميعًا في حِلٍّ، ومثال ذلك القيام بفريضة دفن الميتِ في بلدٍ مِن البلادِ، فإنّه إذا قامَ به بعضُ الناسِ، سقطَ الطلبُ عن جميع أهل البلدِ، وإذا لم يقُم به بعضهم، وتعرضَ الميتُ للضياع؛ أثمَ جميعُ المكلَّفين بتلك الجهة.
فعلى أهلِ التخصصِ، الذي يعانِي البلدُ فيه النقصَ، التواصلَ فيما بينهمْ مع الداخلِ؛ لتكميلِ النقص، ولو بالتناوبِ والتعاونِ، فإنْ فشِلوا في ذلك؛ أثمَ جميعُ المتخلفين، وبرئَتْ ذِمّةُ مَن قدَّم نفسَه للقيامِ بالعملِ.
ولا يُعفِي أصحابَ التخصصاتِ الناقصةِ، القول بأنّه لا تُتاحُ لهم الفرصةُ داخلَ ليبيا للاستفادةِ من خبرتِهم، في ظلِّ الفوضَى وسوءِ الإدارةِ، أو بسببِ فقدِ الأمنِ، أو أنّ منهم مَن يعملُ في بلدٍ مِن بلادِ المسلمينَ – وبلادُ المسلمينَ واحدةٌ – هذا كلُّه لا يُعفي مِن المسؤولية الشرعية ؛ لأنّ سوءَ الإدارةِ، أو فَقْدَ الأمنِ، أو غيرَ ذلكَ مِن المعوِّقاتِ؛ كلّه تراكُماتٌ، تتفاقَمُ وتتزايدُ، بسببِ التهاونِ، والنقصِ في القيامِ بفرضِ الكفايةِ، على النحوِ المشارِ إليه، وبسببِ غيابِ الخبراتِ الناصحةِ، القادرةِ على معالجةِ التدهورِ والتدني المتواصلِ، في الخدماتِ الضروريةِ للناسِ، ويتغلب عليها بالتعاون والإرادة الصادقة في الإصلاح وتكاثف الأيدي، والإصرار على الهدف.
ومَن قدّم نفسَه من هذه الخبراتِ إلى مرفقٍ في البلد ليصلِحَه، أو هوَ أصلًا فيهِ، يكابدُ محتسِبًا صابرًا، يخدمُ أهلَه وأبناءَ وطنِهِ، فهو على ثغرٍ مِن ثغورِ الرباط، وجبهةٍ مِن جبهاتِ الجهادِ، لا تقلُّ فضلًا وأجرًا عن الجبهاتِ الأخرى، التي يخاطرُ الناسُ فيها بأرواحهم؛ من أجلِ التمكينِ للحقّ، وإعلاءِ كلمةِ الدين، فإنّ الدينَ لا يُقامُ في الأرضِ إلّا بإقامةِ الدنيا.
قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69]، وقال تعالى: (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:95].
وبلدُك – يا مَن ينتظرُ أهلُك عونَكَ – وبها هذا النقصُ الحادُّ في تخصصِكَ، هي أحقُّ بكَ شرعًا مِن أيّ بلدٍ آخرَ، حتى مِن بلادِ المسلمينَ الأخرى.
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ) [رواه النّسائِي:2532]، وصحّ عنه أيضًا أنهُ قال: (ابْدَأ بنفسِك فأنفقْ عليها، فإنْ فضلَ شيءٌ فلأهلكَ، فإنْ فضلَ شيءٌ عن أهلكَ فلذي قرابتِك، فإن فضلَ شيءٌ فمِن بينِ يديكَ وعن يمينكَ وعن شمالِك، هكذا وهكذا) [مسلم:997].
والله الهادي إلى سواءِ السبيل.
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الجمعة 17 جمادى الأولى 1437 هـ
الموافق 26-2-2016.