طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (341)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (341)
[سورة الأنعام:121-123] (وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞۗ وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِهِمۡ لِيُجَٰدِلُوكُمۡۖ وَإِنۡ أَطَعۡتُمُوهُمۡ إِنَّكُمۡ لَمُشۡرِكُونَ)(121)
النهي في قوله (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) موجه للمشركين ومن يفعل فعلهم من المسلمين، ومضمون هذا النهي تحذير المشركين؛ بأن المجدي لهم ليس التقول على الله بالتحليل والتحريم، حسب أهوائهم بغير علم، باستعمال القياسات الفاسدة، كتحليل الميتة والربا وعبادة الأصنام، فهذا من اتخاذ الدين هزؤا ولعبا، كما تقدم في قوله تعالى (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)( ) بل كان الأولى والأجدر بهم الذي يجنبهم سوء المصير أن يتركوا الإثم، ما ظهر منه وما بطن، وجملة (وَلَا تَأْكُلُوا) معطوفة على قوله (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ).
والمعنى: الذي منعتم من أكله هو ما ترك ذكر اسم الله عليه، والذي لم يذكر اسم الله عليه ولا يؤكل بالاتفاق نوعان:
الأول: الميتة، وهي ما مات من الحيوان حتفَ أنفه.
والثاني: ما تركت التسمية عليه عمدًا؛ استخفافًا أو إرضاءً لغير الله، كالذبح للجن أو غيره؛ لأنه في معنى ما أُهلّ به لغير الله.
وما عدا هذين النوعين هو ما فيه اختلافٌ بين الفقهاء، وهو ما تركتِ التسميةُ عليه عمدًا، تثاقلًا وليس استخفافًا، ولا إرضاءً لغير الله، قال المالكية في المشهور: لا تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمدًا، وتؤكل ذبيحة التارك نسيانًا؛ لأن الناسي معذور؛ لرفع التكليف عنه وقت النسيان، والعامد لا عذر له، وهو قول الحنفية والحنابلة( ).
وقال المالكية في الرواية الأخرى: تؤكل ذبيحة التارك عمدًا لغير استخفافٍ أو إرضاءٍ لغير الله، وكذلك الناسي، وهو قول الشافعي( )؛ لأن النهي في (وَلَا تَأْكُلُوا) محمول على مَا (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وقال الظاهرية: لا تؤكل ذبيحة التارك عمدًا أو نسيانًا؛ لظاهر النهي في قوله (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ).( )
و(مِن) في (مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) بيانية، وما اسم موصول واقع على الذبيحة وهو ما تركت التسمية عند ذبحه، وقوله (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) عطفٌ على (وَلَا تَأْكُلُوا) وهو مثالٌ لعطف الخبر على الإنشاء.
والضمير في قوله: (وَإِنَّهُ) يعود إمّا على ترك التسمية على الذبيحة في قوله (مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وإمّا على الأكل منها، ووصفه بالفسق معناه أن فعل ما ذكر من تعمد ترك التسمية على الذبيحة أو أكلها والحالة هذه إثم بالغ، وجرأة على المعصية.
والوحي في قوله (لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) أصله الكلام الخفي، ومعناه: الشياطين يوسوسون إلى أوليائهم وأمثالهم، فأولياؤهم: أحبابهم وقرناؤهم، أي وإن شياطين الجن ليوسوسون لقرنائهم من الإنس بالإثم، وقوله(لِيُجَادِلُوكُمْ) أي لينازعوكم ويخاصموكم بالشبه والحجج الكاذبة، يلقونها عليكم، كقولهم: كيف تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون الميتة التي قتلها الله؟
والخطاب في (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) للمسلمين أي وإن أطعتم الشياطين وأولياءهم من المشركين، واتبعتموهم بتحليل ما حرمه الله، وتغيير أحكامه؛ أشركتم بالله، وكنتم مثلهم، فإن من تعمد تحليل ما حرمه الله، أو تحريم ما أحلَّه الله؛ فقد رد أمر الله، وعارضه وخطَّأه في حكمه وأمره ونهيه، ومن فعل ذلك خرج عن الإسلام، فإن الإسلام هو الاستسلام لله، والانقياد لأمره، فضمير الفاعل وهو الواو في أطعتموهم للمسلمين، وضمير المفعول وهو الهاء مع ميم الجمع للمشركين( ).
(أَوَمَن كَانَ مَيۡتٗا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورٗا يَمۡشِي بِهِۦ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيۡسَ بِخَارِجٖ مِّنۡهَاۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلۡكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ)(122)
بعد أن حذّر الله المسلمين من طاعة الكافرين، فيما يوحيه إليهم شياطينهم من المجادلة في التشريع، ومن التحليل والتحريم بالباطل، عطف عليه ما يدل على سوء الحال التي عليها المشركون؛ ليحذّرَ المسلمين من اتباعهم والاستماع إليهم، حتى لا يغتروا بشبههم، فوصفهم بأنهم بالشرك في حكم الموتى، وأنهم في ظلمات لا يَرَوْن النور.
فالهمزة في قوله (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا) للاستفهام، الدالّ على إنكار التماثل بين المسلمين والكافرين، وقوله (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) هو مَثَل لمن شرح الله صدره للإسلام، بعد أن كان ميتًا بالشرك، وموتُه قبل الإسلام موت الضلالةِ، والظلماتُ التي تحيط به هي ظلمات الكفر، وقوله (فَأَحْيَيْنَاهُ) أحياه الله بالهداية إلى الحق وجعل الله له بالإسلام نورا يمشي به في الناس، ويضيئ بالنور الذي يحمله درب الآخرين، فهو هادٍ مهتدٍ.
والكاف في قوله (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ) للتشبيه، والمعنى: من كان ميتًا بالكفر وأحياه الله بالإسلام، ليس مثل من أعرض عن نور الإسلام، وبقي على الكفر في ظلماته، وفي ظلماتِ مصيره الأليم في القبر، وغيره من ظلمات القيامة، حين ينطفئ نور المنافقين والمنافقات في القيامة ويقولون للمؤمنين: ﴿ٱنظُرُونَا ‌نَقۡتَبِسۡ ‌مِن ‌نُّورِكُمۡ﴾( )، حالة كون الكفرة ليسوا بخارجين من الظلمات.
والكافرون في قوله (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ) هم مشركو مكة ومَن سلكَ مسلكهم، والكاف في (كذلك) للتشبيه، والإشارة إلى التزيين المفهوم من زين، أي: مثل ذلك التزيين الذي تزينه الشياطين عادة للكافرين أينما كانوا في مكره ودهائه، لِتَحبسهم في ظلمات الكفر حيثما وُجدوا، زينا لهؤلاء الكافرين في مكة، الذين يجادلونكم بالباطل، ويسوّون بين ما أحلّه الله وما حرّمه، ممّا هو من سوءِ أعمالهم.
(وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا فِي كُلِّ قَرۡيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجۡرِمِيهَا لِيَمۡكُرُواْ فِيهَاۖ وَمَا يَمۡكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ)(123)
هذا التركيب في قوله (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا) هو كالذي قبله، أي: ومثل المكر الموجود الآن في مكة بالمسلمين، جعلنا في كل قرية فيمن مضى من القرى التي كفرت بالله (أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) فليس أمر أهل مكة في المكر بدعًا، فكأنهم تواصَوا جميعًا بالشرِّ والمكرِ.
والمعنى: أن عاقبة وجودِ أكابرِ المجرمينَ في كلِّ قريةٍ كانت المكرَ بأهلِها، الذين كانوا يدعونَ إلى الحقِّ والقسطِ، مِن الأنبياءِ والمصلحينَ.
وما الضرر الحاصل من مكرهم إلا عائدٌ ومنقلبٌ عليهم، في الدّنيا بالقتلِ والأسرِ، وفِي الآخرةِ بالخلودِ في النار، فإجرامهم وكفرهم لن يضرَّ الله شيئًا، ولنْ يضرَّ رسولَ الله ﷺ ولا المسلمينَ صدُّهم عنْ سبيلِه (وَمَا يَشْعُرُونَ) ولكنهم لا يعلمونَ، ولا يشعرونَ أنَّ دائرةَ السّوء بسوء العاقبة تدورُ عليهم، وما يصيب المسلمينَ منهم ما هو إلا أَذًى يرفعُ اللهُ لهم بهِ منازلَـهُم.
فـ(جَعَلْنَا) صيَّرنَا، تنصبُ مفعولين، أولهما (أَكَابِرَ)، وثانيهما (لِيَمْكُرُوا فِيهَا) أي: صيّرنا أكابِر مجرميها ماكرين فيها، والقريةُ تطلق على تجمّع النّاس في مكانٍ واحد إذا كانوا أهل بناءٍ ومدر، خلاف الباديةِ: أهل بيوت الشَّعر والوبر.
وقوله (أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا) أي جعلنا في كل قرية مجرمين وأكابرَ من المجرمين، فهو مِن إيجازِ الحذف، وجملة (لِيَمْكُرُوا فِيهَا) تتعلّق بمحذوف، للعلم به، تقديره: ليمكروا بالنبي ﷺ والمسلمين، واللامُ فِي (ليمكروا) لام العاقبة، والمكرُ: هو إيقاع الضرر في الخفاء بالتحايل والمخادعة.
وكان المشركون لا يألونَ جهدًا في صدهم عن سبيل الله، حتى إنهم جلسوا على كل ثَنيةٍ وعقبةٍ، يحذِّرون القادمين إلى مكة مِن النبي ﷺ ودعوته، والمكرُ والخداعُ لا يجوزُ إلا في الحرب مع العدوِّ، بل الخديعةُ في الحربِ محمودةٌ؛ لأنها خيرٌ مِن المواجهة، لحصول الظفر معها مع تقليل الضرر، وفِي الحديث: (الْحَرْبُ خُدْعَةٌ)( )، وجملة (وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) حالية.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق