(المصلحةُ والمفسدَةُ بينَ المُصطلحِ الأصوليِّ والفَهمِ الشائعِ)
بِسْم الله الرحمن الرحيم
(المصلحةُ والمفسدَةُ بينَ المُصطلحِ الأصوليِّ والفَهمِ الشائعِ)
شاعَ بينَ الناسِ هذه الأيام الكلامُ على المفسدةِ والمصلحةِ.
فبِاسمِ المفسدةِ والمصلحةِ، يتكلمُ السياسيُّ والإعلامِيُّ، والوزير وعضو المجلس ورجل الأعمالِ والتاجر ورجلُ القانونِ والإدارةِ، ورجالُ المال في المصارفِ، ومَن يخوضونَ المعاركَ في الجبهاتِ، والعامةُ والخاصةُ!!
الجميعُ عند الاختلافِ في الشأنِ العامّ يَذكرُ المفسدةَ والمصلحةَ، وينزلون عليها الأحكام الشرعيةَ بالتحليل والتحريم، ومنهم مَن يكونُ له نفوذٌ وسلطانٌ في مؤسسات مالية؛ مصرفية أو رقابية، أو في كتل سياسية لها تأثير وثقل، فاتُخذت قراراتٌ خطيرةٌ في حق الوطن، بناءً على المفسدة والمصلحة، كانت لها تداعيات مؤلمة، يتجرع الناس اليوم مرارتها، وسقطت بسببها مؤسسات، أدى إسقاطها إلى اتساع الفوضى والفراغ، وزيادة تدهور الأوضاع، دماء وأرواح، وقطاع طرق يتمدد نفوذهم، تضخم غير مسبوق، واختفاء أموال، تحويج الناسِ في قوتهم الضروري، وإذلالهم واشتداد وطأة الغلاء عليهم، سياسة نقدية واقتصاد يترنح ، من وُسِد إليه لا يعنيه أمره، رَهْن لمصيرِ وطن لَدى العدوِّ، أو مَن لا يُؤتَمن.
مواقف وقرارات في الشأن العام، هذه بعض آثارها المٌحزنة، وقد لا تمحى لعشراتِ السنين، اتُّخذت من أصحابها، بناءً على ما ظهرَ لهم مِن المفسدةِ والمصلحةِ، ويرَون أنّها هيَ شرعُ الله، ويقولون إنهم اجتهدوا، لأن فيهم من هو حريص على التدين.
الأمرُ في المصلحة والمفسدة ليس كذلكَ أيها الكرام، هناك لَبسٌ وخلطٌ، وتحريفٌ للمعاني الشرعيةِ، جَرَّ إليهِ عدمُ التفريقِ بينَ الثقافة السهلة المبذولة، والمعلوماتِ العامةِ المتاحةِ في الجوّالِ والحاسوبِ، المتوفر لدى كل أحد، وبين مسائلِ العلمِ المتخصّصةِ الدقيقة.
ما يتداوَلُ بين الناسِ مِن المفسدةِ والمصلحةِ بهذا المفهوم الشائع الآن، هو في الحقيقةِ مسألةٌ أصوليةٌ بحتة، ذكرها الأصوليّون في مسألةِ التحسينِ والتقبيحِ، هل الحُسنُ والقُبحُ عقليانِ أمْ شرعيّانِ؟
والمعروف في المسألة – على ما حُقّقَ في الأصول – أنّ كونَ العقلِ يدركُ في كلّ شأن ما فيهِ من مُلاءمةٍ وحسنٍ يُسمى مصلحة، ويدركُ ما فيه مِن منافرةٍ وقبحٍ يسمى مفسدةً، هذا أمرٌ مسلَّم، لا نزاعَ فيه بين العلماء، ولا حتى بين العقلاء، لكن الزلل والخلَل – وهو مربط الفرس – يقعُ في تنزيلِ الأحكام الشرعيةِ على ما أدركَه العقلُ مِن حُسنٍ وقُبح، ومصلحةٍ ومفسدةٍ، وجَعْلِ هذه الأحكام الشرعية تابعةً – ولا بدَّ – لِما أدركَه العقلُ مِن المفسدة والمصلحةِ، فيقع التحليلُ والتحريمُ، والمدحُ والذمُّ، والثوابُ والعقابُ، بناءً على ذلك، على ما أدركتْه العقولُ المجردة، دونَ نظرٍ في الدليلِ الشرعيّ مِن أهلِه، فهذا هو المذموم، وهو التحسينُ والتقبيحُ العقلي علَى مذهبِ الاعتزالِ، المخالف لأهل الحق.
ومذهبُ أهلِ الحقّ الذي أمر الله به، أنّ التحليلَ والتحريمَ لا يكونُ إلّا بالدليلِ الشرعيّ، والعقل تابع له، لا بالمصلحةِ العقليةِ المجردةِ، وهو معنَى قولِ أهل اللسنة: الحسَنُ ما حسنَه الشرعُ والقبيحُ ما قبَّحه الشرعُ.
وعامةُ الناس اليوم يُجْرُونَ المسألةَ على مذهبِ أهلِ الاعتزالِ؛ فيرتبونَ على المفسدة والمصلحةِ، التي تدركها عقولُهم، حكمًا شرعيًّا، ومدحًا وذمًّا، وثوابًا وعقابًا.
وهو من فساد القول، والاستدلال المحرم، والتقوّل على الله بغير برهان، قال الله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا)، ومِن اتباعِ الهوى، وجعلِه حكما شرعيا في أمر تختلفُ فيه العقولُ، قال الله تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ).
ومِن التخرّصِ على الله بالظنون، قال تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)، وقال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
ولو وقعتْ هذه الجُرأةُ بتحسينات العقولِ على تخصصٍ مِن علومِ العصرِ، لكانت موضعَ استهجانٍ وتقبيح، وذمٍّ مِن الناسِ جميعًا، لكنّها على أحكامِ الله استسهلُوها، وتمالؤوا عليها، ولم يسْلمْ منها إلَّا من رحم ربك؛ (ومَن يعتصمْ بالله فقدْ هُديَ إلى صراطٍ مستقيمٍ).
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الخميس 9 شوال 1437 هـ
الموافق 14- يوليو 2016 م