الإنفاق في الصد عن سبيل الله … آية وذكرى
بسم الله الرحمن الرحيم
الإنفاق في الصد عن سبيل الله … آية وذكرى
قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ).
بعد أن ذكر الله صدّ المشركين عن المسجد الحرام، ذكر في هذه الآية صدّهم عن سبيل الله، عن الإسلام كلِّه، وذلك بقتالِ أهله، وبمنع غيرهم مِن الدخولِ فيه، وكانوا لأجلِ تلك الغاية العدوانية الذميمة ينفقون أموالهم، ويبذلون أرواحَهم، كما قال: (لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، وكانوا في ذلك لا يألون جهدا، ففي غزوة بدر تعهد اثنا عشر رجلًا منهم في أنْ يطعموا الجيشَ اللحمَ كل يومٍ، فكانوا ينحرونَ كل يوم عشرةً مِن الإبل، والذين تعهدوا بهذا الإنفاقِ الذميم هم: أبو جهلٍ، وأمية بن خلف، والنضر بن الحارث، وعتبة بن ربيعة، وطعيمة بن عدي، والحارث بن عمرو، وأبو البختري، والعاص بن هشام، وأبو سفيان، والعباس بن عبد المطلب، وحكيم بن حزام، وسهيل بن عمرو، وأكثرهم قُتل يوم بدر، وقوله: (ينفقون أموالهم) يدل على أن أهل الشرك كانوا مستمرينَ على هذا الإنفاق، ماضين فيه.
ولذا فبعد الإنفاق الأول في بدر، أنفق أبو سفيان إنفاقًا آخرَ ذميما يومَ أحد، أجَّرَ ألفين مِن المرتزقة من الأعراب، الذين كانوا حوالي مكة؛ للقتال معه، وكذلك أنفقوا يوم الأحزاب؛ لتحزيب الناس على المسلمين، فإنفاقهم في الصدّ عن سبيل الله متجدد لا يتوقفْ، ولكن عاقبته كانت وبالًا عليهم كما أخبر الله: (فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ)، والحسرةُ: الندمُ والكمد الشديد، كانت عاقبة إنفاقهم في الدنيا قتلا وأسرًا في المعاركِ، وفي الآخرة العذاب وبئس المصير لمَن مات منهم ولم يتب مِن كفره، فالأموالُ التي عادة ما تكون مصدر سعادةٍ لأصحابها، كانت شرا عليهم وسببَ تلفهم وهلاكهم، حتى جُعلت هي الحسرة نفسها؛ مبالغةً في مصابهم بها، وإلّا فهي سببٌ للحسرة وليست عينَها، وهذا التهديدُ بأن أموالهم تكون عليهم حسرة ، قد حلّ بهم، دلَّ عليه قوله: (ثُم يُغلَبُونَ)، لقد أنفقوا الأموال وفقدوا الأرواحَ، ثم فُتحت مكة، فغُلبوا وأُذِلوا، ورغِمَت أنوفُهم، ومَنّ المسلمون عليهم باستبقاءِ حياتِهم، ولم يبقَ لهم بعد الفتحِ ذكرٌ.
وفي الآية ذكرى وعبرةٌ تتوعدُ حكام اليومِ، الذين ينفقون ما مَنَّ الله به على شعوبِهم، من أموال النفطِ والثروات الطبيعيةِ الطائلةِ، التي لو أحسنوا استخدامَها في مصالح المسلمينَ، لكان للأمة شأنٌ وأيّ شأنٍ، يحرِمُون منها شعوبهم وبلادَ المسلمين الفقيرة – وفيها من يموت جوعا – وينفقونها بسخاءٍ على أعدائهم، وفي الصدِّ عن سبيل الله بأصنافِ وأنواعِ الصدِّ؛ ينفقونها على إعلامٍ هابطٍ قائمٍ على الفجورِ والرذيلة، وعلى الكذب والتزويرِ وقلب الحقائقِ، وتشويهِ كلِّ مَن يقف في وجه الفسادِ ويدعو إلى إصلاحٍ.
ينفقونَها في دعمِ الطغاةِ المستبدينَ، القامعينَ لشعوبهم، يدعمونهم بالمال والسلاحِ والمرتزقةِ.
يدفعونَ (فواتير) القنابلِ التي يقتُلُ بها أعداؤُهم أطفالَ المسلمين، ويخربونَ بها الديار؛ ليسودَ القهر والقمع والعداءُ للدِّين، حتى لا تهتزَّ عروشُهم وأركانُهم برياحِ التغييرِ.
ينفقونَها بأريحيةٍ، وبأرقامٍ فلكيةٍ في شراءِ سلاحٍ لا جدوَى ولا طائلَ منه، سوى دعمِ رفاهيةِ شعوبِ أعدائِهم، وتشغيل مصانعهمْ، وإنعاشِ اقتصادِهم، سلاح لا يستعملُه الحكامُ إلّا في تدميرِ بلادِ المسلمين، وضد شعوبِهم.
أمّا العدوّ المحتلُّ الغاصبُ لفلسطين، فعلى مدَى عشراتِ السنين، لم تُطلق عليه طلقةٌ واحدةٌ، بل ذهبوا في الصدِّ إلى أبعدَ مِن هذا ، إلى أن يمحوا اسمَ الجهادِ من ذاكرة الأجيالِ، ويطمسُوا معالمَه بإخراج آياتِ القرآنِ – التي تَذْكر الجهادَ – مِن مناهجِ التعليم في بلادهم، وبإلصاقِ (الإرهابِ) الذي تحالَفوا مع أعدائِهم على محاربته، إلصاقه بالحركات التي تدافع عن حريةِ أوطانِها، فأصدروا قوائمَ تصنفُ حركاتِ المقاومة، وعلى رأسِها المقاومة في فلسطينَ، هي ومَن يدعمُها أو يقفُ معها، مِن الجماعات أو الدولِ أو العلماء، أو العاملين في البرّ والإحسانِ، صنّفوهم جميعا في قوائمِ (الإرهابِ)!
وأصدروا بذلك قوائم توعّدوا بها وهددوا، أَعلنوها جهرةً غيرَ سرٍّ، دون حياءٍ ولا خجلٍ، ولا خوفٍ مِن غضب الجبار، قيومِ السماواتِ؛ تشويهًا لحركاتِ المقاومةِ والداعمين لها، وتحريضًا للتحالفاتِ الدوليةِ، التي لم تجرأْ على المسلمين جرأتَهم، ولم تسرف في إصدار هذه القوائمِ إسرافهم!
وفي بنغازي قُتل وجُرح وهُجِّرَ عشراتُ الآلاف مِن أهلها، بأموالِ بعض حكام الخليجِ، الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، لكنّ كلامَ الله حقٌّ، لا مِريةَ فيه: (فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) فهل من معتبر؟!
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
27 شوال 1438 هـ
الموافق 21 يوليو 2017 م