طلب فتوى
مقالاتمقالات المفتي

(الانضمام إلى الأمم المتحدة )

بسم الله الرحمن الرحيم

(الانضمام إلى الأمم المتحدة )

مِن شبهِ الغلاة التي يوردُونها على الشبابِ، ليجرُّوهُم إلى تكفير كلّ البلاد الإسلامية، انضمامُ هذه البلاد إلى منظمة الأمم المتحدة، فكل من ينضمُّ إليها مِن الحكومات، أو يرضى بذلك مِن الأفرادِ، أو الجماعاتِ، أو العلماءِ والدعاة ، فهو كافرٌ في زعمهم؛ بحجة أنّها برلمانٌ عالميّ، له حق التشريع مِن دون الله، وهو صنم العصر ـ كما يقولون ـ وكل عضوٍ فيها يشكلُ جزءًا مِن هذا الصنم، وأعمال الكفر، فمثلُها – كما يقولونَ – لا تُراعى فيه المصالحُ والمفاسدُ، ولا يُعذرُ فيه إلا بالإكراهِ.

هذا خلاصةُ ما يُلْقونه من الشبهِ على الشبابِ، يُوقِعونهم في الحيرةِ.

وسيتم تناول الموضوعِ في ثلاثِة عناوين رئيسة.

الأول: توصيفُ واقعِ المنظمة الأممية؛ ما لَهَا، وما عليها.

الثاني: عرض هذا التوصيف على الأدلة الشرعية.

الثالث: علاقة الانضمام إليها بمسألة الولاء والبراءِ.

أولًا – توصيفُ واقعِ المنظمة الأممية:

من المعروف أنّ الحكم على الشيءِ فرعٌ عن تصوره.

فلنتصوّر أولًا هذهِ المنظمةَ، ما لَها ومَا علَيها؟ ثمّ نتبين الموقفَ الشرعيّ منْها، وحكم الانضمام إليها، من خلال عرضِه على الأدلة الشرعية.

هيئةُ الأممِ المتحدة منظمةٌ عالميّةٌ، منضَمّةٌ إليها دولٌ مسلمةٌ، وأخرى غيرُ مسلمةٍ، ومعلومٌ أنّه تتحكمُ فيها دولٌ كُبرى، غيرُ مسلمة.

والذي يهمّنَا – حينَ نتكلمُ عن حكمِ الانضمامِ إليها – هوَ الميثاقُ والنّظمُ المكتوبةُ، التي تحكُمُها، لا مُمارساتُها التي تكيلُ بمكيالينِ، فذلك ظلمٌ، لا يُقرُّه أحدٌ، ولا يعترفُ به حتى مَن يقوم به ويمارسه، من المهيمنين عليها.

هذا الميثاقُ المكتوبُ للمنظمةِ، ينصُّ على أنّ لها كثيرًا مِن الأهدافِ، والمهامّ النافعةِ المفيدة.

منها على سبيلِ المثالِ:

1 – الحفاظُ على استقلالِ الدولِ، وتنظيمُ العلاقاتِ بينَها.

2 – الحفاظُ على السلامِ العالميّ.

3 – منعُ انتشار أسلحةِ الدمارِ، مع أنّ المنظمةَ تحتكرُ هَذا السلاحَ المدمرَ لإسرائيل، وتمنعُ غيرَها في المنطقةِ منه!

4 – المحافظةُ على حقوقِ الإنسان، لكنْ يجدرُ التنبيهُ على أنّ مِن هذهِ الحقوقِ مَا هو حقوقٌ حقيقيةٌ، ومنْها ما هو انحرافٌ وتشويهٌ لحقوقِ الإنسان.

ويندرجُ تحتَ هذهِ الأهدافِ العامةِ للمنظمةِ، أهدافٌ أخرَى كثيرةٌ؛ كالاعتناءِ بالتعليم والثقافة، وحمايةِ البيئة، ومساعدةِ الدولِ الفقيرة، والغذاء العالميّ، وإعانة اللّاجئين، وبرامجِ الإغاثةِ في الأزماتِ والكوارث، وغيرِ ذلك مِن الخدماتِ، ذاتِ الطابع التعاونيّ، في مجالِ الصحةِ أو الاقتصاد أو الاجتماع، ممّا يدخلُ في التعاونِ الإنسانيّ المفيدِ للبشريةِ، ومِن التعاونِ على البرّ.

وعلى الجانبِ الآخر؛ لا شكّ أنّ في معاهداتِ المنظمةِ ومواثيقِها ما هو ظلمٌ ومنكرٌ، ومُصادمٌ لشريعةِ الإسلامِ مصادمةً صريحةً، وإقرارُه والرضَا به كفرٌ، وخروجٌ عن الملةِ، كما يأتِي المثالُ عليه قريبا.

لكن في الوقت نفسِه، ينصّ ميثاقُها على أنّها لا تتدخلُ في الخصوصيات، ولا في دينِ أيّة دولةٍ، ولا معتقَدِها، ولا شؤونِها الخاصةِ.

وأنّ اتفاقياتِها وقراراتِها هيَ مجردُ توصياتٍ، غير ملزمةٍ لأعضائِها، ويجوزُ لأيّ دولةٍ أن ترفضَها.

من ذلكَ على سبيلِ المثال؛ وثيقةُ (سيداو)، التي عُرضت في السابقِ على الجمعيةِ مِرارًا، ووثيقةُ (الجندر) للتنمية المستدامةِ، التي ربّما عُرضت مؤخّرًا، وتخططُ الأمم المتحدةُ لإقرارِها بحلولِ عام 2030م.

هذه الوثيقةُ الأخيرةُ والتي قبلَها، هي في الحقيقةِ عارٌ على الإنسانية، لا تُصادمُ فقط الدينَ والشريعة الإسلامية والأخلاقَ، بل تُصادمُ الفطرةَ، والسلوكَ الإنسانيّ السويّ؛ لأنّها – باختصار – دعوةٌ لنشرِ الرذيلة، والفاحشةِ والشذوذِ، وتدمير كيانِ الأسرةِ تدميرًا كاملًا، ونفي كلّ الفوارقِ بينَ المرأةِ والرجلِ، القائمةِ على الجنسِ، التي لا مناصَ لأيّ عاقل في الدنيا مِن الاعترافِ بِها، قال تعالى: (وَليسَ الذَّكرُ كَالأُنثَى) [آل عمران 36].

خلاصةُ التوصيفِ السابقِ لهذه المنظمة، يمكنُ أن يُقالَ: هو تحالفٌ دوليّ يقودُه غيرُ مسلمينَ، في ميثاقِه الذي ينظمُ أعماله، وفي أهدافِه ما هو تعاونٌ وبرٌّ، وفي مواثيقِه ومعاهداتِه، مَا هو انحرافٌ وظلمٌ، وتشريعٌ لم يأذنْ به الله، لكنْ لا يُجبَرُ أحدٌ بمقتضَى ميثاقِ هذا التحالفِ الأمميّ علَى ما يُخالفُ دينَه.

فهل يجوز الانضمام إليهِ والتعاون معه شرعًا، أو لا يجوزُ؟ لنعرض هذا على الدليل الشرعي .

ثانيا – عرض هذا التوصيف على الدليل الشرعي.

لنعرض هذا السؤالَ على السُّنّة، وعلى الصحيح من سيرةِ النبي صلّى الله عليه وسلّم، في تحالفاتِه مع أعدائِه واتفاقياتِه، وعلى مسألةِ الولاءِ والبراءِ، ومنهُ يُعلمُ حكمُ المسألةِ، الذي يرشدُ إليه الدليل.

حلفُ الفُضولِ:

شهدَ النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجاهليةِ حلفَ الفُضولِ، وأثنَى عليه في الإسلام، وقال: (شهدتُ حلفَ المطيبينَ مع عمومَتي وأنا غلامٌ، فما أحبُّ أن لي حمْر النّعَم، وأنّي أنكُثُه) [مسند أحمد 3/193]، وقال: (لو دُعيتُ إليهِ في الإسلامِ لأجَبتُ) [تهذيب الآثار 1/17].

وحلفُ الفضولِ الذي مدحَه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلّم، كانت تعاقدَتْ عليهِ بعضُ قبائلِ وساداتِ العربِ في الجاهلية؛ للتعاونِ على ردعِ الظالمِ ونُصرةِ المظلوم.

النبيُّ صلى الله عليه وسلم لَا شكَّ أنه أثنَى على حلفِ الفضولِ مِن هذا الجانبِ وحده، دونَ سواه ممّا كان عليهِ مُعتقَد أهلِ الجاهلية، الذينَ وقّعوا هذا الحلف، لكن الذِي يُستفاد مِن الحديث، أنّه صلى الله عليه وسلم لم يَمْنَعْه ما عليهِ الجالِسونَ في بيتِ ابنِ جُدعان؛ مِن فسادِ العقيدةِ، وعبادةِ الأصنامِ، والتحاكُم إلى الطاغوتِ، لم يمنَعِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مِن أنْ يُثنيَ على ما تعاهدُوا عليه مِن البِرّ والخيرِ، والتعاونِ على الإحسانِ لخلقِ الله تعالى، وردعِ الظالم، ونُصرة المظلوم.

لأنّ مَن جلسُوا في دارِ ابنِ جُدعان، وجَلسَ معهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأثنى على ما تعاهدوا عليه بحضورِهِ، لم يتبرّؤُوا أمامَ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِن كلّ ما يشرِّعُونَه لأنفسِهم؛ من استحلالِ الرّبا والميتةِ، ووأدِ البناتِ، وتحريمِ الحلالِ؛ كالسائبةِ والواصلة والبَحِيرةِ، قبل أن يُثنيَ النبيّ صلى الله عليه وسلم على حِلفِهم؟! هم لم يفعلوا ذلك قطعًا، وإلّا لشهدَ لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالحنيفيةِ، ولم ينسبهُم وحِلْفَهم إلى جاهلية.

وهذا يدلّ على أنه لا يأثمُ امرؤٌ بحليفِهِ، فمَن شاركَ في أمرٍ فيه نفعٌ للناس وبرّ، لا يضرّه ما عليه شريكُه مِن الإثمِ، ما دامَ غيرَ راضٍ عنه، ولا يُلزم بما عليه شريكه.

وهذه العبارة: (لم يأثَمُ امرؤٌ بحليفِهِ) [السيرة لابن هشام:1/504] وردَت في اتفاقيةِ النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود، عندمَا وادَعَهم أولَ ما هاجر الى المدينة.

فقد عقدَ النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، اتفاقياتٍ ومعاهداتٍ مع بعض قبائلِ العرب، الذين كانوا على الشركِ، كخُزَاعَة ومُدْلِج، ومع عددٍ من قبائلِ اليهودِ، من بني عوفٍ والنجارِ والحارث وغيرهم، وضع صلى الله عليه وسلم فيها أسس العلاقةَ بينهم وبين المسلمينَ، وكان مما جاء في اتفاقيته معهم:

– للمسلمينَ دينُهم، ولليهود دينهم.

– أن يكون التناصر بينهم على مَن حاربَهم.

– وأنّ بينهم النصيحةَ والبرّ، دونَ الإثم.

– وأنه لم يأثمِ امرؤٌ بحليفِه.

ومعنى لم يأثمِ امرؤٌ بحليفِه: أنَّ الآثامَ التي عليها حليفُك لا تضرُّك، ما دمتَ لا تفعلُها، ولا تُقرُّها.

ومعناه أيضًا: أنه لم يمنعْ كفرُ اليهودِ، وشركُ العربِ – وتشريعُهم لأنفسهم ما لم يأذن به الله – لم يمنع من التحالفِ والتعاون معهم، فيما فيهِ مصلحةٌ للمسلمين، وتعظيمٌ لحرماتِ الله تعالى.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى عن صلح الحديبية وفوائده؛ ومنها: (أنّ المشركين وأهلَ الفجور إذا طلبوا أمرًا يعظّمون به حرمةً من حرمَات الله، أُجيبوا إليه، وإن مُنِعوا غيرَه، فيُعانونَ على تعظيمِ ما فيه تعظيمُ حرماتِ الله تعالَى، لا على كفرِهم وبغيِهم، ويُمنعون ما سِوى ذلكَ، فمَن التمَسَ المعاونة على محبوبٍ لله تعالى أجيب إلى ذلك، كائناً مَنْ كان، ما لم يترتب على ذلكَ المحبوبِ مبغوضٌ للهِ أعظمُ منه) [زاد المعاد: /3/269].

هذا هو الفقهُ والتبصرُ، المؤسّسُ على الدليل، أن يتنبّه المسلمونَ إلى ما يعرض عليهِم، مِن خلال هذه المنظمةِ الدولية، أو من غيرها، فيعرضُوه على شريعتِهم وتعاليمِ دينِهم، فما تُقرّه مِن تعاونٍ وبرّ أقرّوه، وما تردُّه مِن عُدوان وإثمٍ، تحفظوا عليهِ وردّوه، ولا يمنعُهم ظلمُ الظالمين، وكفرُ الكافرينَ من إغاثةِ الملهوف، ونجدةِ الضعيفِ، ونصرةِ المظلومِ، وإقامة العدلِ، والتعاون على البرّ، قال تعالى: (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيهِ كُفْرُهُ) [فاطر/ 39].

وليسَ هذا مِن بابِ العملِ بمبدأِ الغاية تبرّرُ الوسيلَةَ، كما يَزعم الزّاعِمون، فذاكَ مبدَأٌ فاسدٌ، قائمٌ على استحلالِ الوسيلةِ المحرّمة، مِن أجل الغايةِ الشريفة، هذا مبدأٌ محرّمٌ؛ لأنّ الوسائلَ لها حكمُ المقاصد، لذَا لا يحلّ لأحدٍ ينضمّ إلى هذه المنظمة، أو غيرِها مِن المنظمات الأخرَى؛ الرّضَا أو العمل بما فيها مِن الآثام، مِن أجلِ ما يجلبُه للناسِ مِن النفعِ والإحسان.

وبهذا يتبينُ الفرقُ جليًّا بين قاعدةِ التعاون على البرّ، الذي أمرَ به الله، وبين مبدأ التبريرِ بالغاية، الذي نهى الله تعالى عنه، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا علَى البِرّ والتّقْوَى ولَا تَعَاوَنُوا علَى الإِثمِ والعُدوانِ) [المائدة /2].

ومِمَّا يدلّ أيضًا على أنّ التعاونَ مع غير المسلمين مشروع، فيما هو بِرّ ونُصح؛ أنّ خُزاعةَ – مُسْلمُهم ومُشْركُهم – كانت عيبةَ نصح رسولِ الله صلى الله عليه وسلم [تفسير الطبري:7/406], (العَيبة مِن الرجلِ موضعُ سِرّه ونُصْحه) .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتاح للأخنس بن شريق، وهو مشركٌ، لِمَا كانَ يبدِيه الأخنس مِن المودّة والنصحِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم [تاريخ الإسلام للذهبي 1/27].

وفي هذا المعنى يقولُ الله تباركَ وتعالى: (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8] .

بقيَ أنْ نَعرضَ الانضِمامَ إلَى هذِه المُنظمَة على مَسألةِ الولاءِ والبراءِ،

ثالثا – علاقةُ الانضمامِ إلى المنظماتِ الدوليةِ بمسألةِ الولاءِ والبراءِ.

من الشُّبه التِي يوردُها الغلاةُ في هذا البابِ، أنّ أصلَ الانضمامِ إلى المنظماتِ الدوليةِ، بما في ذلك العضويةُ في الجمعيةِ العامّة للأممِ المتحدةِ، يدخلُ في باب الولاءِ والبراءِ، الذي تتأسّسُ عليه عقيدةُ المسلم، فهل هوَ كذلك؟ وما تحقيقُ المَسألةِ؟

ورَدَ النهيُ عن موالاةِ غير المسلمين، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [الممتحنة:1].

وقد ورد النهي عن ذلك في آيات أخرى عديدة، وذكر المحققون من أهل العلم؛ أن النهي الوارد في هذه الآية – وفي غيرها من الآيات – عن موالاةِ الكفارِ، هو محمول على موالاة التحالفِ والتناصرِ المصحوبة بالرّضى بدينهم ومودتِهم والميلِ إليهم؛ كما قال تعالى: (تُلقُونَ إليهِم بالموَدّة) [الممتحنة:1].

وقالوا إنّ الدليلَ الشرعيّ يدلّ على أنّ موالاةَ الكفارِ لها ثلاثةُ أحكام، وليست كلّها سواء حكمًا واحِدًا، وهي كالآتي:

1 – موالاةٌ متفقٌ على أنّها توجبُ الكفرَ، وهيّ موالاتُهم محبةً في دينِهم، ورضًى بكفرِهم؛ لأن الرّضى بالكفرِ على هذا النحو كفرٌ، وعلى هذا النوع من الموالاة يُحمل قول الله تعالى: (ومَنْ يَتوَّلّهُم مِنكم فإنّه مِنهُم) [المائدة:51] .

2 – موالاة متفق على أنه لا حرج فيها، وهي التعاون معهم على البر، والمعاشرة الحسنة لغير المحارِبِ منهم؛ كلين الجانب، وطلاقة الوجه، وأداء الحقوق، وتبادلِ المنافع، والتعامل معهم بالبيع والشراء، والصحبة لهم في الدنيا بالمعروف، ونحو ذلك، ويدل لهذا النوع قول الله تعالى فيمن أبواه كافران: (فَلا تُطعهُمَا وصاحِبهُما فِي الدّنيا مَعروفًا) [لقمان:15 ]، وقولُه تعالى: (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8]

وقوله صلى الله عليه وسلم لأسماءَ بنت الصديق، وقد سألتْ أنْ تصلَ أمَّها وهيَ مشركةٌ: (صِلِي أُمّكِ) [البخاري:2/,924, مسلم:2/696]، وقد تقدم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يرتاحُ للأخنس بن شريق الثقفيّ، وهو مشركٌ، لِمَا كانَ يبدِيه مِن محبةِ النبيّ صلى اللهُ عليه وسلّم، والتردّدِ عليه، وأنّ خزاعةَ – مسلمهم ومشركهُم – كانت عَيبة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ونصحه، ومِن هذا قولُ مالكٍ رحمه الله تعالى: “تجوزُ تعزيةُ الكافرِ بمَن يموتُ لَه” [التوضيح:2/129].

وكل ذلك مشروط بعدم الميل والمحبة لدينهم وأخلاقهم السيئة، في ارتكابِ المحرماتِ، وفعلِ المنكراتِ.

3 – موالاة محرمّة، ولا تصلُ إلى حدِّ الكفرِ، وهي الميلُ إليهِم، وطلب النصرة منهم، والتعلق بهم لصحبة أو قرابة، مع اعتقاد بطلانِ دينِهم، وكره الكفر منهم، وكانت الموالاة بهذا المعنى محظورة، إن لم تُلجئ إليها ضرورةٌ، لِما فيها مِن الركونِ، الذي قد يجرّ إلى استحسان دينهم، والرضَى به.

وتُعد الموالاةُ على هذا النحو لغير ضرورةٍ إثمًا، لا كفرًا، لأمرين:

الأول – ما صح من حديث علي رضي الله عنه، في الكتاب الذي كتبه حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد أن جيءَ إليه بالكتاب: (يا حاطب ما هذا؟ قال: لا تعجل عليَّ يا رسول الله، إني كنت امرأ ملصقا في قريش – أي حليفا لهم وليس منهم – وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ فيهم يدًا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله كفرا ولا ارتدادًا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صَدَق، وعَذَرَه (مسلم:4/194).

الثاني – أن الجماعةَ الواحدة، أو الشخص الواحد، قد يَكون محبوبًا من جانبٍ، ومكروهًا مبغضًا من جانبٍ، قد يفعلُ الخير، فيُحبُّ فيه فعلُ الخير، يُحب فيه الإحسان، وصنع المعروف،، وبرّ والديه، وقد يفعل غيرَ ذلك من الصفات الذميمة، فتُكره منه، ويُكره من هذه الجهة وحدَها، لا من الجهةِ الأخرى، يُكرهُ فيه مثلًا التخلفُ عن الصلاة، أو شربُ الدخان، أو عقوقُ والديه، أو التفريط في دينه ومصالح أمته بعرَضٍ من الدنيا يُبذل له، فيكون مبغضًا من هذه الجهة، ومحبوبًا بما فيه من الصفات الأولى، وهذا هو العدلُ الذي أمرَ الله به، ودعت إليه آيات القرآن.

(لَا يَجرِمَنّكُم شَنَآنُ قومٍ على ألَّا تَعدلُوا اعدِلُوا هوَ أقربُ للتّقوَى) [المائدة:8].

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

السبت 4 جمادى الأولى 1437 هـ

الموافق 13 فبراير 2016 م

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق