طلب فتوى
Uncategorized

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (125)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

 الحلقة (125)

 

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[البقرة:234].

 

بعد الكلام على عدة الطلاق، وما يتعلق بالمطلقات من أحكام الرضاع، هذا نوع آخر من أنواع العدد، عدة الوفاة.

(وَالَّذِينَ) اسم موصول، هم الأزواج من الرجال (يُتَوَفَّوْنَ)([1]) (وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) يتركون زوجات (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ)([2]) هنّ النساء المتوفى أزواجهن، وجملة (يتربصن) لفظها لفظ الخبر ومعناها الطلب، أي: عليهن أن يتربصن وينتظرن بأنفسهن، فلا يؤذن لهن بالتزوج قبل تمام العدة، وهي أربعة أشهر وعشرة أيام (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)([3]).

(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فإذا انقضت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، ارتفع عنهن الحظر في التزوج وترك الحداد والتزين والتعرض للخطاب، ولا جناح عليهن في ذلك، ولا حرج عليكم فيما فعلنه، مما كن ممنوعات منه، ومفهوم الشرط (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أنه لا يجوز لهنّ شيء من هذا زمن العدة، قبل بلوغ الأجل، والخطابُ في قوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) لعامة الناس بما فيهم الحكام وأهل المرأة والزوج، وذلك تحذيرًا مما قد يقع منهم من التحرج، إذا أظهرت المرأة رغبتها في الزواج  فور انقضاء العدة، فقد يقع التحرج من ذلك إرضاءً لأحدٍ ومجاملة له، على خلاف ما أذن به الشرع.

وتأكيدًا على ذلك؛ قيدَ ما تفعله المرأة في نفسها بعد العدة بالمعروفِ، أي المعروف الذي يقره عرفُ الشرع، فلا ينبغي للمرأة إفراط إلى أحد الجانبين؛ لا إفراط في التظاهر بالرغبةِ عن الزواج والإعراض عنه إعراضًا لا حقيقةَ له، ولا إفراط في عرض المرأة نفسها للأزواج، بالتبرج ومخالطة الرجالِ، كلّ ذلك ينافي المعروف الذي أمر به الشرع.

ودلَّ عموم الآية على أنّ هذا حكمُ كل معتدةٍ مِن وفاة، سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها، وأيد ذلك العموم حديث بروع بنت واشق: (أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قضى فيها – وقد مات زوجها، ولم يفرض لها صَداقا، ولم يدخل بها – أنّ لها مثل صداق نسائها، وعليها العدة، ولها الميراث)([4])، وخرج من عموم الآية عدة الحامل، بقول الله تعالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)([5])، وبحديث سبيعة الأسلمية زوجة سعد بن خولة؛ أنه توفي عنها بمكة عام حجة الوداع وهي حامل، فوضعت حملها بعد نصف شهر، كما في الموطأ([6])، أو بعد أربعين ليلة كما في غيره([7])، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: (قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِى مَنْ شِئْتِ).

قال عمر رضي الله عنه: “لَوْ وَضَعَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ لَمْ يُدْفَنْ بَعْدُ لَحَلَّتْ”([8])؛ لأن الحكمة من العدة براءة الرحم، وقد تحققت، وكانت عدة المطلقة أربعة أشهر وعشرًا؛ لأنها المدة التي تتحقق فيها المرأة من براءة الرحم من الحمل إن كان هناك حمل، فإنّ الحمل يكون في بطن أمه نطفة أربعين يومًا، ثم علقة أربعين يومًا، ثم مضغة أربعين يومًا، ثم ينفخ فيه الروح فيتحرك، وتحس الأم به، وزيدت العشرة بعد نفخ الروح احتياطًا، لحملٍ قد يكون ضعيفًا، يتأخر تحركه عن المعتاد، وجعل هذ خاصًّا بعدة الوفاة؛ لأنّ المطلقة زوجها موجود، وأي دعوى حمل على خلاف ما يعلمه منها يقدرُ أن يكذبَها، وينفيه باللعان، وهذا غير متأت في الزوج المتوفى، لذا جعلت عدة الوفاة التحقق من عدم وجود الحمل بمضي الأربعة أشهر وعشر لا غير؛ لأنه الطريق المقطوع به لبراءة الرحم (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) يعلم ما تصنعون جميعًا علم الخبير بكم، فاحذروه.

 

[1]) توفي من الأفعال الملازمة للبناء للمجهول، مثل قبض وعني وهرع، وهي أفعال إمّا متعين فاعلها كتوفي فلا يضر عدم ذكره، فالمتوفِّي هو الله، والميت متوفَّى، أو للجهل بالفاعل، وجوز بعضهم أن يقال للميت متوفٍّ بالكسر، على معنى مستوفٍ لحياته، وعليه قراءة (يَتَوَفَّونَ) بفتح الياء، يحكى أنّ أبا الأسود الدؤليّ كان يمشي خلف جنازة، فقال له رجل مَن المتوفي – بكسر الفاء – فقال له: الله تعالى، وكان ذلك أحد الأسباب الباعثة لعلي رضي الله عنه على أنْ أمره بأن يضع علم النحو، وقيل في السبب غير ذلك.

[2]) والذين مبتدأ، وجملة (يتربصن) خبر، وشرط المبتدأ والخبر التوافق في التذكير والتأنيث، وهو غير متحقق في الظاهر، فالذين يتوفون هم الأزواج من الرجال، ويتربصن هن النساء الزوجات، فإما أن يقدر مضاف قبل المبتدأ محذوف؛ زوجات الذين يتوفون يتربصن، أو يقدر مع الخبر يتربصن ضمير مذكر يعود على المبتدأ، أي: يتربصن بعدهم أو لهم، على حد قولهم: السمن منوان بدرهم، أي: منوان منه بدرهم، أو يعرب يتربصن خبر لمبتدأ محذوف.

[3]) العشر تخالف المعدود في التذكير والتأنيث، مثل ما قبلها من الأعداد، فمعناه أنّ معدودها هنا مؤنث، على الرغم من أن الظاهر أنه مذكر، وهو الأشهر أو الأيام، فيكون تأنيثه إما على إرادة الليالي، أو يوجه على أنه غلب استعمال العشرة على صيغة واحدة في التذكير والتأنيث تخفيفًا، فمثلا قوله تعالى: (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا) ظاهر في الأيام، فقد جاء بعده: (إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا) ومع ذلك التزم في العدد وهو (عشرا) تأنيث المعدود، قالوا لخفته غلب استعماله كذلك على صيغة واحدة، ويمكن أن تخرج الآية التي معنا على القاعدة العامة، وهي أن المخالفة بين العدد والمعدود في التذكير والتأنيث، محلُّها إذا ذكر المعدود، أمّا إذا حذف كما هنا فيستوي الأمران، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر) رواه مسلم:1164.

[4]) أبوداود: 2114.

[5]) الطلاق: 4.

[6]) الموطأ: 1246.

[7]) البخاري: 4626، مسلم: 1485.

[8]) الموطأ: 1247.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق