طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (240)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (240)

[سورة النساء:58-59]

 

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا) الخطابُ في يَأْمُركُمْ عامٌّ، لكلّ مَن يتأتَّى منه الخطابُ، أمرَ الله تعالى فيه عباده بأمرين:

الأول: أداءُ الأماناتِ إلى أهلِها، وردُّها لأصحابِها ومستحقِّيها، وإبراءُ الذمةِ منها، و(الْأَمَانَات) جمع أمانة، وهي ودائعُ أو حقوقٌ للغير في ذمةِ آخرين، سواء كانت ماديةً محسوسةً كالمالِ والمتاع، أو معنويةً اعتباريةً؛ كالوظائفِ والولاياتِ في الحكم بدرجاتِها المختلفة مقابلَ الأجرِ، وكأداءِ الرسالة، والنصحِ والبيانِ والبلاغ الواجبِ على أهل العلمِ، والقادرين عليه، فهذه كلُّها أماناتٌ في أعناقِ أصحابها، يجبُ أداؤُها، ولا يجوزُ التهاونُ فيها، أو أداؤُها على غير وجهِها، أو التملّصُ منها، والتهاون فيها غشّ وخيانةٌ للأمانة، وخُلفٌ في الميثاق والعهد، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)([1])، وقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ)([2]).

والأمر الثاني الذي أمَرت به الآية (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) ومعنَى حكمتمْ: قضيتُم بين الناس، واشتقاقه من الحَكْم، وهو الإمساكُ والمنع، كالحَكَمة التي توضعُ في فمِ الدابة لتمسِكها؛ لأن الحُكم في فصل القضاءِ يرجعُ إلى المنع، والإمساك عن الظلمِ، والحكمُ بين الناس من اختصاصِ ولاةِ الأمرِ دونَ غيرهم، والعدل: التسويةُ بين الناس في إيصالِ حقوقهم المستحقةِ لهم، في أوقاتِها، وأن يكونَ معيارُ تقديرها موافقًا لمعيار الشرع، لا يخالفُهُ، فالعدلُ ليس التسويةَ المطلقة، وإنما إعطاء كل أحدٍ ما لهُ في حقٍّ كان قليلًا أو كثيرًا، وقد رويَ في سببِ نزولِ الآيةِ: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ مفتاحَ الكعبة، عام الفتح، من عثمان بن أبي طلحة، ودخلَ الكعبة، وصلَّى فيها، وقد كانتِ السقايةُ، وهي سقيُ الماءِ وتوفيرُهُ للحجّاج في الموسم، للعباسِ عّم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن السقايةَ كانت في بني هاشم، وكانت السِّدانة، وهي حِجابة الكعبة والدخول إليها ومفتاحها، لبني عبد الدار، فطلبَ العباسُ من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيَهُ مفتاح الكعبة؛ لتكونَ لهم السدانةُ مع السقاية، فنزل قولُ الله تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا)، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُثْمَانَ بنَ طَلْحَةَ، وَأخاه شَيْبَةَ، فَدَفَعَ المِفْتَاحَ لعثمان، وَقَالَ: (خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً، لَا يَنْتَزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ)([3])، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، وأعطاه عثمانُ لأخيه شيبةَ، فهو باقٍ في أولاده، والعبرةُ فيما دلَّت عليه الآيةُ بعموم اللفظ في كلّ أمانةٍ، لا بخصوصِ السببِ في حجابة الكعبة.

(نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ)([4]) نِعْمَ الذي يعظُكُم اللهُ به أداءُ الأمانة، وأنْ تحكمُوا بالعدل، أي: المخصوصُ بالمدح هو أداءُ الأمانة، فلا تفعلُوا ما يخالفُ ذلك (إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) يسمع ما تقولون، ويبصر ما تفعلونَ، فاحذروه.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ) بعد أن أمرَ اللهُ الحكامَ بالعدل، أمرَ الرعيةَ بالطاعة؛ لأن استقرارَ الحكم الرشيدِ يقومُ على دعامتينِ: طاعة الرعيةِ لولاتهم وتعاونهم معهم، وعدل الولاةِ بينهم.

وقد أوجبَ الله الطاعةَ لأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وجوبًا مطلقًا، فطاعتُهُ تجبُ استقلالًا، كطاعةِ الله، وهذا بخلافِ طاعةِ أولي الأمرِ، فإنها مشروطةٌ بطاعةِ الله ورسولهِ، ولذلك أعيدَ الأمرُ بفعل الطاعةِ في جانبِ الرسولِ، ولم يكتف فيه بحرفِ العطف، كما في طاعةِ وليّ الأمر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يُوشِكُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُكَذِّبَنِي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلَا وَإِنَّ مَا ‌حَرَّمَ ‌رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  مِثْلُ مَا ‌حَرَّمَ ‌اللهُ)([5]).

وأولو الأمرِ هُم ذووهُ وأصحابهُ، وهم فئَتانِ:

الأولى: علماءُ الشريعة وفقهاؤُها، كما قال مالك: هم أهلُ القرآنِ والعلم، ويؤيدُ هذا القولَ قولُه تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)([6])، فالعلماء هم المؤهلون لاستنباط الأحكام من أدلة الشريعة، وسمّاهم القرآن أولي الأمر.

والفئة الثانية: كلّ من أُسند إليه البتُّ في أمرٍ من أمور الناس، ينفذُه بمقتضى العدل، وبما لا يخالفُ أحكام الشرع، فيشمل عموم الحكام، من رئيسِ الدولة، فما دونه من الأمراء، والولاة، والوزراء، والقضاة، والنياباتِ، ومَن أسندت إليه وظيفة الرّقابات الإداريةِ أو الماليةِ أو القضائية، وكذلك قادةُ السرايَا، وكلّ من أسندت إليه ولاية.

وطاعتهم جميعًا مقيدة بالمعروف، وبما لا يخالف أمرَ الله ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم: (لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ)([7]).

خرج البخاري في سبب نزول الآية عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ سَرِيَّةً، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ أَمَرَكُمُ النَّبِيُّ أَنْ تُطِيعُونِي، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَأَجْمِعُوا حَطَبًا، فَجَمَعُوا، قَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا، فَأَوْقَدُوهَا، فَقَالَ: ادْخُلُوهَا، فَهَمُّوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا، وَيَقُولُونَ: فَرَرْنَا إِلَى النَّبِي مِنَ النَّارِ، فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّارُ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ، فَقَالَ: (لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ)([8]).

(فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (شَيْءٍ) نكرة في سياق الشرط، تعمُّ كلّ تنازعٍ مأذونٍ فيه، سواء كان واقعًا بين الحكام أنفسِهم، أو بين الحكام والعامةِ، أو بين العلماءِ، ولا يكونُ النزاعُ في الأمور الشرعية بين العلماء والعامة؛ لأنه ليس للعامةِ أن يتكلموا في الأحكام الشرعية مِن غير علم، وقوله (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ) معناه الرجوعُ عند النزاع في معرفة الصوابِ إلى كتابِ الله، وردّه إلى الرسول، الرجوع به إلى النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ في حياته، وإلى سنته صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ بعد وفاته (إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي أن الردَّ إلى الله ورسوله هو مقتضَى الإيمان، فواجبُكم الوفاء به والحفاظُ عليه (ذَلِكَ) الرد إلى الله ورسوله (خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) الخير ما كله نفعٌ، خلافُ الشرّ، والتأويل أصلُه من آلَ يَؤُولُ إذا رجع، فالرجوع إلى الكتاب والسنة أحسنُ عاقبةً ومآلًا، ويستعمل التأويل أيضًا في مراجعة النصِّ وإمعانِ النظر فيه، ببيان المعنى المراد مِن لفظه غير الظاهرِ منه، ويقابله التفسيرُ ببيان اللفظِ الظاهر، واسم التفضيل في (خَيْرٌ) و(أَحْسَنُ) ليس على بابِه، فليس في الرجوع إلى غير الكتابِ والسنة بما يتعارض معهما شيءٌ من الخير ولا الحسنِ.

والآيةُ بيَّنت أنواع الأدلةِ التي تستنبطُ بها الأحكام، وهي الكتَاب والسنة؛ لأن الرد إليهما، وفي قوله (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ) ما يدل على وجوبِ العمل بما اتفقوا عليه، وهو الإجماع، وقوله (فَرُدُّوهُ) يدل على إعمالِ القياس، وإعمال باقي الأدلة التي يكون بها الاستنباط؛ لأن الحكم الذي لا يحتاجُ إلى إعمالِ القياس وإعمال طرقِ الاستنباطِ، لا يقع التنازع فيه، ولذا قال في الآية الأخرى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)([9]).

 

[1]) الأنفال:27.

[2]) الحجر:91.

[3]) المعجم الأوسط للطبراني:488/ والمعجم الكبير: 11234.

[4]) (نِعِمّا) فعلٌ وفاعلٌ، أصلها: نِعْمَ، فعلٌ ماضٍ من أفعال المدح، أُدغمتْ في (مَا) الموصولة، ويعظكم صلة الموصول، من الوعظ، وهو النصح والتذكير، والمخصوص بالمدح محذوف – كما هي القاعدة – يعرب خبرًا لمبتدأ محذوفٍ.

[5]) مسند أحمد:17194.

[6]) النساء:83.

[7]) مسند أحمد:1095.

[8]) البخاري:4340.

[9]) النساء:83.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق