طلب فتوى
البيعالتبرعاتالفتاوىالمعاملاتالوقف

التحبيس على النفس وبيع الحبس

بيع الوقف من التعدي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

رقم الفتوى (4608)

 

ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:

جاء في وثيقة التحبيس: “أن الحاج  ح … حبّس وسرمد كامل ما على ملكه وتحت تصرفه إلى حين العقد… على نفسه، مدة حياته على مذهب الإمام الثاني أبو يوسف… ثم على أولاده الموجودين الآن، وما سيولد إن شاء الله تعالى بقية عمره ذكوراً وإناثا، للذكر مثل حظ الأنثيين ثم على أولادهم كذلك إلى آخر العقب ما تناسلوا وامتد فرعهم في الإسلام، لا يشارك ولد منهم أصله ولا يحجب أصل فرع غيره، ومن مات منهم تنزل أولاده وإن سفلوا منزلة، فإن مات عن غير عقب فلإخوته أشقاء أو لأب، فإن لم يكونوا، رجع استحقاقه لبقية المستحقين منهم، حسبما ذكر ممن ساواه في الدرجة، ومن مات منهم قبل الاستحقاق فإن أولاده وإن سفلوا يقومون مقامه ويستحقون ما كان لأصلهم أن لو بقي حياً بعد موت المستحق، وهكذا في كل طبقة ودرجة إلى آخر العقب فإن انفرطوا عن آخرهم، رجع الوقف المذكور وقفاً صرفاً على الجامع المعروف بجامع بن تريكي الكائن بقبيلة العمروص بساحل طرابلس كسائر أوقافه…. حبساً… لا يباع ولا يوهب…”، ونظرًا لكون الأرض ليستْ صالحةً للزراعة، وللظروف الصعبة التي يعيشها الورثة، من فقر وحاجة للمسكن والعلاج، فإنهم يريدون بيع الأرض، وتخصيص جزء من المبلغ لبناء مسجد، أو مدرسة قرآنية، أو غيرها من أعمال البر، فهل يجوز ذلك؟

الجواب:

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فالتحبيس على النفس باطلٌ عند جماهير أهل العلم؛ لأنه مما لا نفع فيه، ولا قربى ترتجى من ورائه، وليس فيه سوى التحجير على النفس، قال الخرشي رحمه الله: “… الْحُبْسُ عَلَى النَّفْسِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَجَرَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ” [شرح الخرشي على المختصر: 7/84]، ولكن لما نصَّ الواقف على تقليده لبعض المذاهب المعتبرة لم يصحَّ نقضُه، ويمضي على ما فيه، ويكون التحبيس صحيحًا نافذًا.

عليه؛ فإن كان الحال كما ذكر؛ فبيع الوقف لا يجوز، ولو خرب وتعطّل، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه، في أرض أراد أن يُحبِّسها: (… لاَ يُبَاعُ، وَلاَ يُوهَبُ، وَلاَ يُورَثُ) [البخاري: 2764]، وقال ابن أبي زيد: “وَلاَ يُبَاعُ الحُبُسُ وَإِنْ خَرِبَ” [الرسالة: 119]، ويتأكد المنع إذا كان العقار في المدينة وبين العمران، قال يحي الحطاب رحمه الله في بيع الوقف: “وَلَا يُبَاعُ مَا خَرِبَ مِنَ الرِبَاعِ إِذَا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ، لِأَنّهُ لَا يُوءَسْ مِنْ ِإصْلَاحِهِ، وَقَدْ يَقُومُ مُحْتَسِبٍ لله تَعَالَى فَيُصْلِحُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى عَقِبٍ فَقَدْ يَسْتَغْنِي بَعْضُهُمْ فَيُصْلِحُهُ” [رسالة في حكم بيع الأحباس: 38].

فتَصَرُّف ورثة الْـمُحَبِّس في الوقف لصالحهم بالبيع، واستغلاله بحجة أنهم فقراء ومحتاجون؛ يُعَدُّ من التعدّي، وأكل أموال الناس بالباطل؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ﴾ [النساء: 29]، ولأنه من التبديل والتغيير في وصية المحبِّس، قال الله تعالى: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[البقرة:181]، ويجب عليهم تنفيذ الشروط التي يشترطها الواقف، فشرط الواقف كنص الشارع عند الفقهاء، وبإمكان المُحَبّسِ عليهم من الورثة في هذه الحالة، أن يعطوا الوقف لمن يعمّره ويستثمره، قال عليش رحمه الله: “وَقَدْ أَفْتَى جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي الْمُتَأَخِّرِينَ بِجَوَازِ إجَارَةِ الْوَقْفِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ لِمَنْ يُعَمِّرُهُ وَيَخْتَصُّ بِزَائِدِ غَلَّتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَقْفِ رِيعٌ يُعَمَّرُ بِهِ وَوَقَعَتْ الْإِجَارَةُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي وَقْتِهَا وَجَرَى الْعَمَلُ بِفَتْوَاهُمْ إلَى الْآنَ فِي مِصْرَ” [فتاوى عليش: 2/239]، ويكون ذلك بأن يعطوه لمستثمرٍ ويتفقون معه عليها، فيبني المستثمر فيه عمارة، ويكون بإحدى طريقتين؛ إما أن تكون جميع غلة البناء وكرائه للباني المستثمر إلى نهاية المدة المتفق عليها، ثم تؤول الأرض بما عليها من العمارة إلى الوقف، وإما أن يبقى البناء للباني ملكًا له دون الأرض، والأرض تبقى ملكًا للوقف، وتقسّم الغلة والإيجار بين المستثمر صاحب البناء، وبين الواقف صاحب الأرض بنسبة رأس المال لكل منهما، فإذا كانت قيمة أرض الوقف خمسين مثلاً، وقيمة الاستثمار في البناء خمسين، كان للمستثمر نصف الكراء وللوقف نصفه، وهكذا، وإذا استأجر المستثمر البناء، وسكنه بنفسه، قُدرتِ الإجارة بأجرة المثل، ويعطي منها للوقف ما ينوبه على النحو السابق، وبهذا العمل يستمر الوقف، وهو أولى من إبطاله، وبقائه خرابًا، والله أعلم.

وصلَّى الله على سيّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم

 

 

لجنة الفتوى بدار الإفتاء:

عبد الدائم بن سليم الشوماني

حسن سالم الشريف

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

مفتي عام ليبيا

16//محرم//1443هـ

24//08//2021م

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق