المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (206)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (206)
(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[آل عمران:173-176].
(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) الضمير في (لهم) يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا قد خرجوا لملاقاة قريش في غزوة حمراء الأسد، التي كانت عقب أحد، بتوعدٍ مِن أبي سفيان للمسلمين على أن يأتي على من بقي منهم حسب زعمه؛ انتقامًا لقتلاه في أحد، و(النَّاسُ) من العام الذي أريد به الخاص، فالناسُ الأُوَل هم ركبُ بني عبد القيس، وكانوا في طريقهم إلى المدينة للمِيرة، فالتقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حمراء الأسد، وكان أبو سفيان قد طلبَ منهم أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم إنّ الناس -وهم جيش أبي سفيان- قد جمعوا لكم فاخشوهُم، وقد ورد مِن العام الذي أريد به الخاص في غير هذا الموضع قوله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ)() وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، عُبّر عنهم بالناس (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) أي: فزادَ المسلمين تخويفُهم من العدوّ إيمانًا، فالذي زادهم إيمانًا هو القول: إنّ الناس قد جمعوا لكم، وفيه دليلٌ على زيادة الإيمانِ ونقصانه، يزيدُ بالطاعات وينقص بالمعاصي (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) حسب: مصدر بمعنى كافٍ، اسم ملازم للإفراد والتذكير والإضافة، ولا تفيده الإضافةُ تعريفًا، والوكيل: الناصر والمدافع، ومنه قوله تعالى: (فَمَن يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا)() ومن أسمائه تعالى الوكيل، بمعنى: الكفيل والكافي، ومنه قوله تعالى: (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا)() وقوله -أيضًا- هنا: (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) أي نعم الحافظ والكافي، والمعنى: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا أرهبوهم وقالوا لهم: إن أعداءكم قد اتفقتْ كلمتُهم عليكم، واجتمعوا لقتالكم، فخافوهم واستسلِموا لهم، زادَ هذا القولُ المسلمين إيمانًا ويقينًا، وصاروا أكثر وثوقًا بنصرِ الله، وأشدّ صلابةً في الحقّ، وتمسكًا بدينهم، فقالوا: مع ضعفِنا، وقلةِ عددِنا، الله هو الذي يمنعكم عنَّا، هو حسبُنا وكافينا وناصرُنا، ونعم الكافي والوكيل والنصير (فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) كانت نهاية أمرهم – بعد أن خرجوا لعدوهم في حمراء الأسد – خيرًا، انقلبوا ورجعوا سالمين غانمين بما نالوا من فضل الجهاد بتلبية النداء، وبما أنعم الله تعالى عليهم من السلامة، فحفّتهم العناية، ولم يمسسْهم أذًى مِن عدوهم، ولم يلاقوا حربًا، بل عدوّهم الذي كان يتوعدُ هو الذي خافهم، وانهزمَ وتخاذَلَ().
(وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ) فعلوا ما يرضي اللهَ بجرأتهم على عدوهم، وخروجِهم إليه، على الرغم مِن القراح والجروح التي آلمتهم عقب أُحد (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) بسبب رضوانه عليهم رجعُوا موفورين، مؤيَّدين، شملتهم النعمة والعافية، وحسنت عاقبتهم في الدارين، فكانت غبطة لمن حمَلوا أنفسهم على الخروج لعدوهم، وتحسيرًا وندمًا للخالِفين.
(إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) الإشارةُ بذلكُم إلى القولِ الذي قاله الناس في قوله تعالى: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)() ويصحُّ أن تكونَ الإشارة بـ(ذَلِكُمُ) إلى الناس المراد به وفد بني عبد القيس القائل إن الناس – وهم كفار قريش – قد جمعوا لكم، و(الشَّيْطَانُ) يكون عطف بيان أو بدلًا من ذلكم، وأطلق على وفد بني عبد القيس المخذّل لفظ الشيطان؛ لأن الشيطان يكون من الجن ويكونُ من الإنس، أو من التشبيه البليغ، بتشبيه مَن قال هذا القول مِن الإنس بشيطان الجنّ، فكأنه صار من الجنّ للشبه معه في فعله الخبيث، وجملة (وَخَافُونِ) معترضة، وجواب الشرط (إِنْ كُنْتُمْ) محذوف، دل عليه ما تقدم، تقديره: إنْ كنتم مؤمنين فخافوني، وفيه تعريضٌ بالقاعدين، الذين لم يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأمّا الذين خرجُوا فالله يعلم إيمانهم، والخطاب للمؤمنين بقوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لتهييج الإيمان في قلوبهم، لتقوَى نفوسهم في الثباتِ على الحق، وعند ملاقاة العدوّ، والمعنى: المؤمنون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين قال لهم بعضُ المخذّلين والمرجِفين: إنّ كفار قريش قد أعدوا لكم جيشًا عظيمًا، لا تقدرونَ عليه، فخافُوهم، واستسْلِموا لهم، لم يزدهم هذا القول إلا إيمانًا وقوةً وصلابةً، وثباتًا على دينهم، وذلك بالتجائهم إلى الله، والتوكل عليه قولًا وعملًا، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فكانت عاقبتُهم بسبب ذلك القولِ الفوزَ في الدنيا بالنصر، وفي العقبى بمرضاة الله، ومَا المرجفُ والمخذلُ بالتخويفِ مِن العدو وقتَ اشتدادِ الأمرِ عليكم إلا شيطانٌ، وأولياؤه مِن كفار قريش ومَن في حكمِهم ممن يأتي بعدهم، هم أولياء الشيطان، فلا تلقوا لهم بالًا، ولا تهتموا بهم، ولا تخافوهم، إن كنتم مؤمنين، فالمؤمنون يخافونَ الله وحدَه؛ لأن الأمرَ كله بيده.
(وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) لا يضرّك أمرُ مَن يقَعُونَ وينغَمِسُونَ ويوغِلُون في الكفر، ولا مَن يسارعون فيه، وفي مناصرة أهله وموالاتهم، والتحالف معهم على المسلمين، ويُظهرونَ أعمالَ الكفر والنفاقِ بلا توقّفٍ، لا تحزنكَ أقوالهم ولا أفعالهم، فإنّ الله سيبطلها ويحبطها، والخطابُ في (لَا يَحْزُنكَ) للنبيّ صلى الله عليه وسلم تسليةً له، فقد كان لحرصِه على نجاةِ الكفَرة يحزنُه إعراضُهم وصدودُهم، تكادُ نفسُه تقطَّع خوفًا عليهم مِن الهلاك وسوءِ المصير، قال تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)()، فالنهيُ عن الحزن غير متجهٍ إلى الحزن ذاتهِ؛ لأنه يقعُ من الناس طبعًا، ولا يملكون دفعه، وإنما يتجهُ النهي إلى الخوفِ من إضرار عدوه، أي: لا تخفهم أن يضروك، الدالِّ عليه قوله تعالى: (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا) وكذلك لا يتجهُ النهي عن الحزن إلى وقوعِ الكافرين في الكفر؛ لأنّ الوقوع في الكفرِ أمرٌ قبيح، لا يصلحُ النهيُ عن الحزنِ عليه (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا) وقوعهم السريع في الكفر لا يُهلكون به إلا أنفسهم؛ لأنه لم يبقَ لهم في الآخرة نصيبٌ كما يأتي، فالله غنيٌّ عن العالمين، لا يضرهُ كفر الكافرين، ومَن كفر فعليه كفره، و(شَيْئًا) منصوبٌ على المصدرية، أي لن يضروك ضررًا شيئًا مهمَا كان قليلًا، فتنكير (شيئًا) للتقليل والتحقير، وكما لا يضرُّ كفرُهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، لا يضرُّ أولياءَه من المسلمين؛ لأن الله يدافع عن الذين آمنوا، فلن يقدروا بكفرهم تعطيلَ ما أرادَه الله تعالى مِن إظهار دينه، فالله متمّ نوره ولو كره الكافرون (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) الحظ: النصيب، أي: لوقوعهم السريع في الكفر وتهافتهم عليه بجدٍّ وإصرارٍ، خذلهم الله، وسُلبوا التوفيق، وقضى بحرمانهم منه في الآخرةِ لمن ماتَ منهم على ذلك (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فليسَ لهم في الآخرةِ إلّا النار.