الشيخ (أحمد الكوحة) رفيقُ الدراسةِ
الشيخ (أحمد الكوحة) رفيقُ الدراسةِ
بسم الله الرحمن الرحيم
فقدَتْ دارُ الإفتاء، وفقدَتْ ليبيا، وفقدَ المسلمونَ معها بمزيدِ الحزنِ، عَلَمًا مِن أعلامِ الفقه المالكي، ورمزًا مِن رموزهِ في بلادِنا، هو الشيخ أحمد محمد الكوحة، شهدَ له رحمه الله كل مَن عرفَهُ؛ بجودةِ النظرِ، وسدادِ الفهمِ، وصحيحِ الفقهِ.
وقبضُ العلماءِ ثُلمةٌ في الدين، ومصيبةٌ على المسلمين؛ لأنّ قبضَهم مِن قبضِ العلم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الله لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا).
وقال الحسنُ: (موتُ العالِمِ ثُلمةٌ في الإسلامِ، لا يسدُّها شيءٌ مَا اختلفَ الليلُ والنهارُ).
وُلدَ الشيخ أحمد رحمه الله في منطقةِ اغنيمة بقصر خيار، عام 1359هـ – 1940م، وحفظَ القرآن بزاوية البازَة بمدينةِ زليطن، وتلقى تعليمَه في المرحلةِ الأولَى في حلقاتِ المساجدِ، بالأسمرية وغيرِها.
ثم تابعَ تعليمَه بمعهد أحمد باشا الديني، حين اعتنَى الملكُ إدريس رحمهُ الله بالتعليم الديني، وأصدر أمرًا ملكيًّا بإنشاءِ جامعةِ محمد بن علي السنوسيّ الإسلامية، وضمّت إليها الطلابَ الدارسين بنظام الحِلَق في المساجدِ، في كلٍّ مِن مدرسةِ جامعِ الباشا، والأسمرية، وزاوية محمد بن علي السنوسي بالبيضاء.
وهذه المدارس القائمة على نظام الحلقِ، على الرغمِ مِن أنها كانت تضمُّ خيرةَ العلماءِ، غزارةً في العلمِ، وتأهلًا في التربيةِ والتوجيه والسلوكِ، أمثال الشيخ منصور بو زبيدة بالأسمرية، والشيخ عبد الرحمن القلهود، والشيخ أبو بكر بلطيف، والشيخ الجد علي الغرياني رحمهم الله جميعا – كانت تعيشُ على الرمقِ، على المساعداتِ المتواضعةِ القليلةِ مِن إداراتِ الأوقافِ.
وبضمِّ هذه الحلق إلى الجامعة الإسلامية تنفسَ التعليمُ الديني في ليبيا الصّعداءَ، وأقبلَ الطلابُ عليهِ؛ لأنّ الطلابَ كانوا يعانونَ مِن الفقرِ، وقلةِ ذاتِ اليد، والقليلُ منهم مَن كان يقدرُ على مواصلةِ الدراسةِ، والإنفاقِ على نفسهِ.
وبإنشاء الجامعةِ الإسلامية تأسّسَ معهد أحمد باشا الديني بطرابلس، والمعهد الأسمري بزليطن، ومعهد البيضاء.
وصارَ للطلابِ أقسامٌ داخليةٌ، تنفقُ عليهم بكرمٍ، أشبعَتْهم مِن جوعٍ، وأغنتْهُم مِن فقرٍ، وأدفأَتْهم مِن بردِ الخَلاوِي وصقيعها.
وصارَ لطلابِها احترامٌ وتقديرٌ بينَ الناس، وفِي الدوائرِ لدَى السلطاتِ، فلمْ يكنْ أحدٌ مِن المسؤولينَ يجرُؤُ علَى تنقُّصِهم، أو تعويقِ إجراءاتِهم، أو تعطيلِ ميزانياتِهم، وكانَ شيخُ الجامعة مقدَّمًا في ديوانِ الملكِ على رئيسِ الحكومةِ، تقديرا للشرع والدين.
فازدهرَ التعليمُ الدينيُّ أيَّما ازدهارٍ، وعَلا شأنُهُ، وأقبلَ الطلابُ عليهِ، وخرَّجَ العلماءَ في كلِّ فنٍّ؛ في علومِ الفقهِ وأصولِهِ، وفي علومِ اللغةِ، وخرّجَ الأدباءَ والشّعراءَ.
وكانَ حصنا منيعًا، حفظَ البلادَ مِن الغلوِّ والتطرفِ، والأفكارِ المنحرفةِ، فلا تكاد تجدُ في شيوخِ الجامعةِ الإسلاميةِ ولا خِرّيجيهَا غاليًا، ولا متشددًا.
فأي خيرٍ قدّمه الملك رحمه اللهُ للبلدِ، وأيّ حسنةٍ أحسنَ بها إلى ليبيا، حينَ اعتنَى بالتعليمِ الدينيّ، في معاهدهِ وجامعاتهِ، ورعاهُ بنفسِهِ، فجزاهُ اللهُ عن ليبيا والمسلمين خيرَ الجزاءِ.
وهذا يؤكدُ لنَا حقيقة لا بُدّ للمسؤولينَ اليوم أن يعترفُوا بهَا، أحبُّوا أمْ كرِهُوا – إنْ كانوا حقًّا يريدونَ التخلصَ مِن التشددِ والغلوِّ – هيَ أنَّ اجتثاتَ الغلوِّ واقتلاعَ جذورهِ، إنّما يكونُ بتحصينِ الشبابِ بمعاهد العلمِ، لا بقنابلِ الطائراتِ، ولا يكون ذلكَ إلَّا بالتوسع في قاعدة التعليم الديني المتدرج الأكاديمي المؤصل، فهو الذي ينتفِي به الزيفُ
فإن الناس في حاجتهم إلى معرفة دينهم ومعتقداتهم كحاجتهم إلى الماء والهواء، إذا وجدوا هواء نقيا وماء صافيا، أنِفوا ورود المستنقعات.
وقد ناديتُ بذلكَ منذُ تسعيناتِ القرنِ الماضِي، في عددٍ مِن الكتبِ؛ منها كتابُ الثقافةِ الإسلاميةِ، حينَ كانَ القذافي يقفلُ أقسامَ الدراساتِ الإسلاميةِ في الجامعاتِ، بعدَ أنْ أقفلَ معاهدَها.
قارِنْ عناية الملك بالتعليم الديني وما نتج عنه من سلامة المجتمع من التشدد معَ تعامُلِ المسؤولينَ اليومَ مع المؤسسةِ الدينيةِ، في دار الإفتاءِ أو غيرِها، المعهدُ العالي للعلوم الشرعيةِ، وهو الآن في سنتِهِ الخامسة، لم يُصرف له درهمٌ واحدٌ مِن الحكوماتِ المتعاقبةِ إلى حدِّ الآن، ولم تُرصَد له ميزانية.
التحق الشيخُ أحمد الكوحة رحمه الله بمجموعتِنا، بالسنةِ الثالثةِ مِن المرحلةِ الابتدائيةِ بمعهد أحمد باشا أول ما افتتح ، وكان نظامُ التعليمِ في المعاهد الدينية في ذلك الوقتِ أربعَ سنواتٍ للمرحلةِ الابتدائية، وخمسَ سنواتٍ للمرحلة الثانوية، ثم الجامعة، فكان نعمَ الرفيقُ، ومِن الطلبةِ المتفوقينَ الجادّينَ في التحصيلِ، عالِي الهمّة، يُنافس على أنْ يكونَ دائمًا مِن الأوائلِ في قوائِمِ الناجحينَ.
انتقلنَا سويًّا مِن المعهدِ إلى كليةِ الشريعةِ بالبيضاء، وتخرجنا فيها عام 1969م.
وتعيَّنَ كِلانا بدارِ الإفتاء في العام نفسه ، وكانَ المفتِي في أولِ الأمرِ الشيخ عبد الرحمن القلهود، ثمّ تولّى الشيخ الطاهر الزاوي، وكان أمينَ عام دار الإفتاء، العالم الفقيه المتمكّن خالِي الشيخ عزالدّين ابن الشيخ محمد الكبير الغرياني رحمَهم الله جميعًا، واستفدْنَا مِن علمِهم وتوجيهاتهم، ثمّ انتقلتُ إلى الجامعةِ، وبقيَ الشيخ أحمد بدارِ الإفتاءِ، ما يقربُ مِن عشرينَ عامًا، مع الشيخِ الخال، حتّى بعدَ أنْ لزمَ الشيخُ الطاهرُ بيتَه، وتمَّ غلقُ دارِ الإفتاءِ.
وكان تحرير الفتاوى والتفتيش عليها في بطونِ الكتبِ والشروحِ وكتبِ النوازلِ – طولَ العشرينَ سنة – يدورُ على الشيخِ أحمد الكوحة رحمه الله، فاكتسبَ رصيدًا علميًّا هائلًا، وخبرةً واسعة بالفقهِ ومسائلهِ، وملكةً فقهيةً بنوازلهِ، مكَّنتهُ بجدارةٍ، أن يكون مرجعًا للناسِ، يعولون عليه حتّى بعدَ أن قفلت دارُ الإفتاءِ أبوابها.
وعندما أُعيدتْ دارُ الإفتاءِ بعد الثورة ، انضمّ إليها ، واستفادَت منهُ استفادةً كبيرةً، فكانَ نعمَ العونُ، وخيرَ سندٍ، وكانَ – على كبر سنِّه – ينجزُ وحدَهُ من العملِ ما لا ينجزُهُ الشبابُ، فجزاهُ اللهُ خيرًا عنِ المسلمينَ، وأثابهُ.
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
18 رجب 1439 هـ
الموافق 5 أبريل 2018 م