طلب فتوى
الأسرةالأقضية والشهاداتالطلاقالفتاوىالنكاح

حكم التحاكم إلى غير المسلمين في التنازع

حكم الطلاق يوقعه قاض غير مسلم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

رقم الفتوى (5586)

 

ورد إلى دار الإفتاء الليبية الأسئلة التالية:

تحصلتُ على إيفاد لاستكمال الدراسة خارج البلد بدولة كـندا، فسافرتُ أنا وأهلي، وعندما أتممتُ الدراسةَ وأردتُ الرجوعَ إلى ليبيا رفضَتْ زوجتي الرجوعَ معي، وأصرَّتْ على البقاء في كندا وأمسكَت الأولادَ معها، حاولتُ إقناعَها بالرجوع وحاول معها أهلُها كذلك، ولكن دون جدوى، فاضطُرِرْتُ إلى الرجوع منفردًا؛ حتى أوفِي بالتعهُّد الذي التزمتُ به، والذي يقضي برجوعي إلى البلد والتحاقي بالعمل بالجامعة فورَ إتمامي للدراسة، والآن مضى على هذه الحال سنتان ونصف، لم أتوصَّل فيها إلى حلٍّ لهذه المشكلة، فهل أكون أنا هو المقصِّر ومَن هجرتُ زوجتي؟ أو هي التي هجرَتْني؟ وما الحكم فيما إذا رفعَتْ عليَّ دعوى طلاق إلى المحكمة الكندية؟ وإذا رفعَتِ الدعوى وحَكم لها القاضي بالطلاق بناءً على دعواها بأني هجرتُها أكثرَ من عام، هل هذا الطلاق يكون نافذًا شرعًا، وتترتَّبُ عليه آثاره؟

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فيجبُ على الزوجة طاعةُ زوجها في المعروف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنّمَا الطّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ) [البخاري: 6830]، وطاعتُه في الرجوع من بلاد الكفر هي من الطاعة في المعروف؛ فلا يجوز لها أن تعصيَه بالبقاء في مكانٍ لا يأذن لها بالبقاء فيه؛ خاصَّةً وأنَّ بقاءَها هذا؛ هو في بلد الكفر لا تأمَن فيه على دينها وعلى نفسها وأولادها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ) [الترمذي: 1604]، وقال: (لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ) [مسلم: 1339]، وقد رأينا ما حصل لكثيرٍ من العائلات المسلمة في بلاد الغرب من انتزاع أولادهم منهم لأسباب مفتعلة باسم حماية الأطفال من العنف ونحو ذلك.

والمرأةُ بفعلها هذا وهجرها لزوجها تُعَدُّ ناشزًا، تصبح وتمسي في غضبِ اللهِ حتى تتوبَ إلى الله، وترجعَ إلى زوجها، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (إِذَا باتَتِ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ) [البخاري: 3528، مسلم: 1436]، جاء هذا الوعيدُ فيمن هجرَتْ زوجَها ليلةً واحدةً وهي معه في بيته، فكيف إن هَجَرَتْه سنين وهي خارج بيته، وبقيَتْ خارجَ البلاد بغير إذنه؟! وكيف إذا انضمَّ إلى ذلك بقاؤُها في بلد الكفر، وانضمَّ إلى ذلك تضييعُها لأولادها بإبقائهم في غير بلاد المسلمين؟! فهي ظلماتٌ بعضُها فوقَ بعضٍ، فعليها أن تخرج من هذه الظلمات، وتُعجِّل بالتوبة إلى اللهِ، وطاعةِ زوجها، وتعود بأطفالها إلى بلادها.

والنشوز كما قال الدردير رحمه الله: “الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ الْوَاجِبَةِ، كَأَنْ مَنَعَتْهُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا، أَوْ خَرَجَتْ بِلَا إِذْنٍ لِمَحَلٍّ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَأْذَنُ فِيهِ” [الشرح الكبير: 2/343]، وهو مسقِطٌ لوجوب نفقة زوجها عليها، قال ابن عبد البر رحمه الله: “وَمَنْ نَشَزَتْ عَنْهُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا سَقَطَتْ عَنْهُ نَفَقَتُهَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا” [الكافي: 2/559].

أمَّا فيما يتعلَّق بالتحاكم إلى المحكمة الكندية فإنَّه غيرُ جائز؛ لأنَّ تحاكمَ المسلمين عند تنازعهم قد حدَّده الله سبحانه بالردّ إلى الله عزَّ وجلَّ والرسول صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: (‌فَإِن ‌تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ)[النساء: 59]، ونهى وحذَّر من سلوك سبيل المنافقين، الذين يرغبون عن حكم الشرع إلى غيره، فقال تعالى: (‌وَإِذَا ‌دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُم مُّعۡرِضُونَ 48 وَإِن يَكُن لَّهُمُ ٱلۡحَقُّ يَأۡتُوٓاْ إِلَيۡهِ مُذۡعِنِينَ 49 أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ٱرۡتَابُوٓاْ أَمۡ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡ وَرَسُولُهُۥۚ بَلۡ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ 50 إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ)[النور: 48-51]، ولأنَّ من الشروط الواجب توفُّرُها في القاضي أن يكون مسلمًا، قال الدردير شارحًا كلامَ خليل رحمه الله: “(أَهْلُ الْقَضَاءِ عَدْلٌ) أَيْ: مُسْتَحِقُّهُ عَدْلٌ… وَالْعَدَالَةُ تَسْتَلْزِمُ الْإِسْلَامَ وَالْبُلُوغَ وَالْعَقْلَ وَالْحُرِّيَّةَ وَعَدَمَ الْفِسْقِ”، قال الدسوقي رحمه الله: “فَغَيْرُ الْعَدْلِ لَا يَصِحُّ قَضَاؤُهُ وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ” [الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 4/129].

عليه؛ فإذا حكم القاضي بالمحكمة الكندية بالتفريق فإنه غيرُ معتبَرٍ شرعًا، ولا يعتدُّ به في حل العصمة الثابتة بنكاحٍ صحيحٍ؛ لأنَّه تحاكمٌ لما يخالفُ الشريعةَ الإسلاميةَ وأحكامَها، والله أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

 

 

لجنة الفتوى بدار الإفتاء:

حسن بن سالم الشريف

عبد العالي بن امحمد الجمل

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

مفتي عام ليبيا

07/ شوال/ 1445هـ

16/ 04/ 2024م

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق