طلب فتوى
الإجارةالتبرعاتالصلاةالعباداتالفتاوىالمساجدالمعاملاتالوقف

عقد الإجارة بالمشاهرة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

رقم الفتوى (5636)

 

ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:

أنا ناظرُ وقفٍ بمسجدٍ أهليٍّ (غير تابع لهيئة الأوقاف) بمدينة طرابلس، وقد تعاقدتُ سنة (2016م) مع شيخٍ ليكون إمامًا وخطيبًا ومحفّظًا للقرآن الكريم، مقابل مرتب قدره (1200) دينار شهريًّا، وتوفيرِ سكنٍ له، وقد أُغلِق المسجد أثناء العدوان على طرابلس؛ لوقوعه في مناطق الاشتباكات، واستمرّ الإغلاقُ بعده في فترة جائحة (كورونا)، فبلغتْ مدّةُ الإغلاق ما يقارب عشرين شهرًا، وبمجرّد أن عادت إقامة الصلاة في المساجد بعد انحسار الوباء تواصلتُ مع الشيخ ليعود إلى المسجد، ولم أصرفْ له طيلةَ مدّة الإغلاق شيئًا من الأجرة المتفق عليها؛ لعدم قيامه بعمله، وهو يطالبني بصرفِ أجرة هذه الشهور، أسوةً بما فعلَته هيئةُ الأوقاف مع موظفيها والمتعاونين معها، حيث صَرفتْ لهم مرتباتهم في تلك المدة دون أن يقوموا بأعمالهم، والشيخ المذكور كان متعاونًا مع الأوقاف، ويتقاضى على ذلك مكافأةً، وترَكَ العملَ معهم لأجل الالتحاق بمسجدنَا، بعد الإلحاح عليه من بعض الفضلاء؛ لأجل المصلحة العامة. والسؤال: هل يلزمني أن أصرف للشيخِ المذكور أجرةَ الشهور التي لم يعمل فيها مِن مال الوقف؟ وهل أنا ملزمٌ بالقوانين المعمول بها في الجهة المشرفة على المساجدِ، وهي هيئة الأوقاف؟

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فإنّ التعاقدَ المذكور هو مِن قبيلِ الإجارةِ بالمشاهرة، وهي من العقود غير اللازمة، فلكلٍّ من المؤجِر والمستأجر التركُ متى شاء، إلا في خلال الشهر الأول؛ فإنَّ العقد فيه لازم، وإذا لم يُفسخ بعد مضي الشهر الأول، فإنه يتجدد تلقائيًّا للشهر الذي يليه، ويكون لازمًا فيه وفي ما بعده، فيأخذ بعد مضي المدة حكم الإجارة بالوجيبة، والحكم فيها أنه إذا مُنع العاملُ من أداء عمله بسبب أمرٍ قاهرٍ لا يُستطاعُ دفعُه، كالحرب؛ فليس له حقٌّ في الأجرةِ بعد حصول المانع؛ لعدم وجود عِوَضٍ في نظيرها، وإنما له من الأجرة بقدر ما عمل، قال أبو الحسن القابسي رحمه الله: “وَأَمَّا سُؤَالُكَ عَن مُعَلِّمِ قَوْمٍ نَزَلَ بِهِمْ مَا اضْطرَّهُم ِإلَى الرَّحِيلِ فَرَحَلُوا، بَعْضُهُمْ إِلَى مَكَانٍ وَبَعْضُهُمْ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، أَوْ رَحَلَ بَعْضُهُمْ وَثَبَتَ بَعْضُهُمْ فِي الْبَلْدَةِ، مَا يَصْنَعُ هَذَا الْمُعَلِّمُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنْ يُنظَرَ إِلَى مَا عَاقَدَهُمْ هَذَا الْمُعَلِّمُ عَلَيْهِ فِإِن كَانَ إِنَّما جَلَسَ عَلَى الْمُشَاهَرَةِ شَهْرًا بِشَهْرٍ أَوْ سَنَةً بِسَنَةٍ فَالْحُكْمُ فِيهِ أَن يَتْرُكَ تَعْلِيمَهُم مَتَى شَاءَ وَيَتْرُكُوهُ مَتَى شَاءُوا وَالْحُكْمُ بَيْنَهُم فِيمَا قَدْ عَلَّمَ لَهُمْ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَا قَبْلَ هَذَا فِي الَّذِي لَهُ أَن يُخْرِجَ وَلَدَهُ، وَلاَ يُلْتَفَتُ فِي هَذَا الْعَقْدِ إِلَى خُرُوجِهِم كَانَ بِغَلَبَةٍ أَوْ بِغَيْرِ غَلَبَةٍ، إِنَّمَا لِلْمُعَلِّمِ بِقَدْرِ مَا عَلَّمَ رَحَلُوا عَنْهُ أَوْ رَحَلَ عَنْهُم، وَلَوْ كَانَ عَقَدَ مَعَهُمْ عَلَى سَنَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ أَشْهُرٍ بِأَعْيَانِهَا نُظِرَ فِيمَا نَزَلَ بِالْقَوْمِ فَإِن كَانَ مَا لاَ يَجِدُونَ مَعَهُ ثَبَاتًا وَلاَ بُدَّ لَهُم مِنَ الرَّحِيلِ عَنْهُ مِمَّا نَزَلَ بِهِم مِن بَلَاءٍ لاَ يُطِيقُونَهُ بِفِتْنَةٍ أَوْ مَجَاعَةٍ فَهُم فِي رَحِيلِهِم مَعْذُورُونَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَن يَتْبَعُهُم ِفي الْأَسْفَارِ، لَمْ يَسْتَأْجِرُوهُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِن رَجَعُوا فِي بَقِيَّةٍ مِنَ الْمُدَّةِ رَجَعَ إِلَيْهِم فِي تِلْكَ الْبَقِيَّةِ وَسَقَطَ عَنْهُم مِنَ الْأَجْرِ بِحِسَابِ الْأَيَّامِ الَّتِي حِيلَ فِيهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْنَعُوهُ مِنَ السَّيْرِ مَعَهُمْ وَلاَ أَمْسَكُوا أَوْلاَدَهُمْ عَنْهُ طَوْعًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِم أَن يَسْتَكْمِلُوا لَهُ الْأَجْرَ وَهْوَ لَمْ يَسْتَكْمِلْ عَمَلَ الْأَجَلَ” [الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين: ص: 166-167].

وأمّا إن كان المنعُ من جهة المستأجِر – وهو ناظر الوقف هنا – كالمنع بسبب الإغلاق الذي حصل في فترة جائحة كورونا؛ فإنَّ العاملَ يستحقّ أجرَه كاملًا؛ لأنه وفّر نفسه للخدمة، وربُّ العمل هو الذي منعه، ففي البيان والتحصيل: “قَالَ ابنُ القاسِمِ – في الرّجل يستأجرُ الرّجلَ شهرًا يحرث له، فينكسرُ المحراثُ، أو يموتُ الزّوجُ [لعل الصواب يموت الثور]، أو يمطر فيحتبس اليومَ وما أشبهه – قال: أَمَّا كَسْرُ الِمحْراثِ وَموتُ الثور فَإِنّ الكِرَاءَ فِيهِ لَازِمٌ؛ لأَنَّ حَبْسَهُ جَاءَ مِنْ قِبَلِ المِحْرَاثِ وَرَبّ الزّوجِ، وَأَمَّا المَطرُ فَهوَ مَنْعٌ مِنَ اللهِ، وَهوَ بِمَنزِلَةِ المَرَضِ، فَلَيْسَ لِلأَجِيرِ في ذَلِكَ إِجَارَةٌ. قال محمد بن رشد: هَذَا بَيّنٌ عَلَى مَا قَالَ؛ لِأَنَّ المُستأجِرَ كَانَ يَقْدِرُ أَنْ يُعِدَّ زَوْجًا غَيرَهَا، أَوْ مِحْرَاثًا غَيْرَه، فَإِذَا لَمْ يَفْعَل وَجَبَ لِلْأَجِيرِ أَجْرُهُ كَامِلًا؛ لِأَنَّ الحَبْسَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ، بِخِلَافِ المَطَرِ الذي هو مِنَ اللهِ لَا صُنْعَ لِأحَدٍ فِيهِ” [8/492].

عليه؛ فليس من حقّ الشيخ المذكور أن يطالب بأجرته عن الفترة التي لم يعمل فيها بسبب الحرب؛ لأنَّ منعَه من أداء عمله لم يكن للناظر دخلٌ فيه، وليس بمقدوره رفعُه، وما كان له من أجرة عن فترة إغلاق المسجد بسبب جائحة كورونا، فإنَّه يستحقّها كاملةً؛ لأنَّ المنع كان من جهة الناظر.

أما فيما يتعلّق بإلزام ناظري الأوقاف بالمساجد الأهلية بالقوانين التي تنظمها هيئة الأوقاف من عدمه، فإنَّهم غيرُ ملزمين بها، وإنما الذي يلزمهم اتباعُ شروط الواقفين، قال الدردير رحمه الله: “(وَاتُّبِعَ) وُجُوباً (شَرْطُهُ) أَيِ الْوَاقِفِ (‌إِنْ ‌جَازَ) شَرْعاً” [الشرح الكبير: 4/91]، والله أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

 

لجنة الفتوى بدار الإفتاء:

أحمد بن ميلاد قدور

حسن بن سالم الشريف

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

مفتي عام ليبيا

18// ذو القعدة// 1445 هـ

26//05//2024م 

 

 

 

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق