طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (312)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (312)

 

[سورة المائدة:109-115]

(يَوۡمَ يَجۡمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبۡتُمۡۖ قَالُواْ لَا عِلۡمَ لَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلۡغُيُوبِ)(109)

بعد أن ذكر الله تعالى وصية المؤمنين عند حضور الموت، وأمر بحفظها والإشهاد عليها، ذكر ما وصى به المرسلين، وحال أقوامهم معهم في الاستجابة لما وصاهم الله تعالى به، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿‌شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّینِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحࣰا وَٱلَّذِیۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ وَمَا وَصَّیۡنَا بِهِ إِبۡرَٰهِیمَ وَمُوسَىٰ وَعِیسَىٰۤ أَنۡ أَقِیمُوا۟ ٱلدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا۟ فِیهِ﴾([1]).

وجملة ظرف الزمان (يَوْمَ يَجْمَعُ) متعلقة بفعل محذوف مقدّم، تقديره: اذكر يوم يجمع الله الرسل، أو متعلقة بمؤخّر عنها، وأُبهم للتهويل، ليذهب به المخاطب كل مذهب، حتى يقع التخويف من ذلك اليوم موقعه، أي (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) لسؤالهم عن أقوامهم، يكون يوم عصيب شديد الهول على من لم يجيبوا الرسل (فَيَقُولُ) الباري، وهو أعلم بما كان منهم ومن جواب أقوامهم لهم (مَاذَا أُجِبْتُمْ) أيُّ إجابة أجُبتم؟ أو ما الذي أجابكم به أقوامكم عندما دعوتموهم إلى الإيمان؟ فماذا أداة استفهام متعلقة بأُجبتم، والاستفهام للتوبيخ للمكذبين من أقوام الرسل، ولإقامة الحجة عليهم (قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا) قالت الرسل: لا علم لنا إلا بما أظهروه لنا، وما أعلمتنا به مما أخفوه عنا من مكائدهم ونفاقهم (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فلا تخفى عليك خافية.

(إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱذۡكُرۡ نِعۡمَتِي عَلَيۡكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ إِذۡ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗا وَإِذۡ عَلَّمۡتُكَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ بِإِذۡنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِي وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِي وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِي وَإِذۡ كَفَفۡتُ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ عَنكَ إِذۡ جِئۡتَهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّبِينٞ)(110)

في هذه الآيات تذكير لعيسى عليه السلام بنعمة الله عليه وعلى والدته، بما فيه تقريع لليهود، ورد افتراءاتهم، ابتدئ هذا التقريع بنداء الله له بأنه ابن مريم عليها السلام؛ ليخزيهم في افترائهم على مريم، فليس في ذلك ما يشينه، وذكره بنعمة الله عليه وعلى والدته، إذ أيده وحماه من اليهود وبغضهم ومكرهم به، فلم يقدروا أن يمسوه بأذى، وحين قرروا قتله رفعه الله إليه، وحماه منهم، وأيده بروح القدس جِبْرِيل عليه السلام.

وجملة (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) حال من ضمير أيدتك، و(فِي الْمَهْدِ) ظرف مستقر في محل الحال، وكهلا عطف عليه، أي: وحالة كونك كهلا، والكلام في المهد معجزة، وفي الكهولة ليس كذلك، فيحمل ذكره على التسوية، بأن كلامه في المهد ككلامه في الكهولة؛ لتكمل معجزة المهد، أو يحمل على أنه سيكلم الناس بعد أن ينزل من السماء، لأنه رفع إليها قبل سن الكهولة، فيكون أيضا من الإخبار بما سيأتي من المعجزة، والمهد: ما يمهد للصبي من الفراش في سن الرضاعة، والكهولة: بلوغ الأشد من الأربعين إلى الخمسين.

وقد أيده الله بمعجزة الكلام في المهد إرهاصًا بنبوته عليه السلام، ألقى إليه جِبْرِيل عليه السلام بالكلام وهو بين ذراعي أمه، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿فَأَشَارَتۡ إِلَیۡهِۖ قَالُوا۟ كَیۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِی ٱلۡمَهۡدِ صَبِیࣰّا﴾([2])؛ ليرد على اليهود حين قالوا لأمه: لقد جئت شيئا فريا، وقالوا عنه إنه ابن زنا، قبحهم الله، فقال لهم في المهد: ﴿إِنِّی عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِیَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِی نَبِیࣰّا ‌وَجَعَلَنِی ‌مُبَارَكًا أَیۡنَ مَا كُنتُ﴾([3])، وقال عن والدته: ﴿وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِی وَلَمۡ یَجۡعَلۡنِی جَبَّارࣰا ‌شَقِیࣰّا﴾([4]).

قد تقدم نظير قوله (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ)، وكذلك قوله (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي) تقدم نظير ذلك كله في سورة آل عمران، وكرر هنا (بِإِذْنِي) أربع مرات وهناك مرتين؛ لأنها ذكرت هنا للامتنان وهو عليه كثير متعدد، وهناك للإخبار فاكتُفي بالمرتين.

وإنْ في قوله (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) نافية، أي: قال الكفرة من اليهود لما رأو المعجزات ما هذا إلا سحر واضح لمن يراه، فكذّبوه، وردوا على المعجزة بأنها سحر، وقالوا عن عيسى عليه السلام بأنه ساحر، ووصفهم لعيسى بالسحر ليبرروا لأنفسهم قتله؛ لأنّ حكم الساحر عند اليهود القتل.

(وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ)(111)

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ) إذ ظرف زمان منصوب بفعل محذوف، تقديره: اذكر يا عيسى حين أوحيت إلى الحواريين، و(أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ) ألهمتهم، وهديتهم للإيمان، والحواريون هم الصديقون، الذين آمنوا بالله وصدقوا عيسى عليه السلام ونصروه، والرسول في قوله (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) عيسى عليه السلام، ويمكن إطلاقه على جنس الرسول، فيعم كل الرسل الذين أرسلوا إلى بني إسرائيل؛ لأنهم كانوا مأمورين بشريعة التوراة.

وأنْ في قوله (أَنْ آمِنُوا) هي المفسرة، لأنّ أوحيتُ يتضمن معنى القول، فما بعد (أَنْ) وهو طلب الإيمان بالله ورسوله يفسر ما قبلها من الوحي إلى الحواريين، والوحي الذي أوحاه الله إلى الحواريين هو إلقاء الإيمان في قلوبهم فـ(قَالُوا آمَنَّا) حين أُلهموا الإيمان، أي استجابوا، وقالوا بلسان الحال ولسان المقال (آمَنَّا وَاشْهَدْ) يا الله (بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) فالخطاب في قوله: (وَاشْهَدْ) من الحواريين لله تعالى، اشهدْ بأننا منقادون مستسلمون لك، تصديقًا وانقيادًا.

(إِذۡ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ هَلۡ يَسۡتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِۖ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأۡكُلَ مِنۡهَا وَتَطۡمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعۡلَمَ أَن قَدۡ صَدَقۡتَنَا وَنَكُونَ عَلَيۡهَا مِنَ ٱلشَّٰهِدِينَ)(112-113)

هذا امتنان من الله تعالى بنعمة أخرى، امتن الله بها على قوم عيسى عليه السلام، حين طلبوا منه أن ينزل الله عليهم المائدة مِن السماء، فاستجاب الله لهم، فقوله (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ) متعلق بفعل اذكر مقدر، واذكر (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) والمائدة تطلق على الطعام وحده، وتطلق على الطعام الموضوع على الخِوان، وهو خشبة لها قوائم أربع “طاولة”، يوضع عليها الطعام، وكذلك تطلق المائدة على الطعام نفسه، وعلى الطعام الموضوع على ما شابه الخِوان كالسُّفرَة، أو ما يفرش على الأرض ويوضع عليه الطعام.

وأصل السّفرة وعاء من جلد متسع، له علائق يرفع بها، ليسهل نقله وصحبته في السفر، ومنه جاء اسمه (سفرة)، وفي الحديث في وصف كيف كان يأكل النبي صلى الله عليه وسلم: (… وَلاَ أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ)([5])، ولما سئل قَتَادَةَ: “عَلاَمَ كَانُوا يَأْكُلُونَ؟ قَالَ: عَلَى السُّفَرِ»([6]).

ثم أفصح الحواريون عن غرضهم من سؤال المائدة، فقالوا إنهم يريدون أن يأكلوا منها تبركا بها، ففائدة ذكر (مِنْهَا) إشارة إلى أن طلبهم المائدة ليس ناشئا عن جوع ونقص في الطعام، وإنما ليأكلوا منها هي لا من غيرها؛ لأنها طعام نازل من السماء، وقولهم (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) ليس معناه أنهم يشكون في قدرة الله، فالحواريون من الصِّدّيقين، يعلمون أن الله يستطيع أن ينزل عليهم المائدة من السماء، فليس معنى الاستطاعة هنا حقيقةَ القدرة، وإنما هذا من التلطف والتأدب في الطلب، كما تقول للقادر على القيام: هل تستطيع أن تقوم؟ وهو استعمال شائع في طلب الأدنى من الأعلى بين الناس، ولله المثل الأعلى، فيقول صاحب المسألة لمن فوقه: هل تستطيع أن تعطيني كذا؟ وهو يعلم قدرته على إعطائه، وإنما يريد بذلك أن يوجد له العذر إذا لم يعطه سؤله، ولا بباله الشك في قدرته عليه، فهل تستطيع هنا تساوي هل تفعل، إلا أنها أكثر تلطفا منها.

وقد جاء عن عَائِشَةَ ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما أن الخِطابَ في قوله: (هَلْ يَسْتَطِيعُ) لعيسى عليه السلام، على معنى: هل تستطيع أن تسأل ربك؟ قالت عائشة رضي الله عنها: كَانَ الْحَوَارِيُّونَ أَعْلَمَ بِاللهِ عز وجل مِنْ أَنْ يَقُولُوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ، وَلَكِنْ قَالُوا: لعيسى هَلْ تَسْتَطِيعُ أن تسأل رَبَّكَ، وقرئ خارج السبعة (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ) على معنى: هل تسأل ربك.

وفي أول الأمر عارضهم عيسى عليه السلام، في سؤال المائدة وقال (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) اتقوا الله، وداوموا على تقواكم إن كُنتُم مؤمنين، كاملي الإيمان، فليس قوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) للتشكيك في إيمانهم، بل تذكيرهم بالإيمان الذي يحملونه، حَملا لهم على الكف عمَّا طلبوه، وهذا كما قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام، حين قال لربه: ﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ رَبِّ أَرِنِی ‌كَیۡفَ ‌تُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّیَطۡمَئِنَّ قَلۡبِیۖ﴾([7]).

وبمثل جواب إبراهيم عليه السلام أجاب الْحَوَارِيُّونَ عيسى (قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا) أي قالوا طلبنا نزول المائدة من السماء ليس لضعف إيماننا، ولكن لنأكل من طعام نزل من السماء، ولم يصنع في الأرض، تبركا به، ولتطمئن قلوبنا، فيزدادَ إيماننا يقينا بالمشاهدة والعيان، بعد إيماننا بالدليل والبرهان وقوله (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا) أي نزداد يقينا بصدقك عند مشاهدة المعجزة (وَنَكُونَ) على هذه المعجزة (مِنَ الشَّاهِدِينَ) فننقلها لأقوامنا، فيدخلون الإيمان، ويتركون الكفر والعناد.

(قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلۡ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيدٗا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةٗ مِّنكَۖ وَٱرۡزُقۡنَا وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ)(114)

كرر عيسى عليه السلام في دعاء ربه النداء مرتين؛ باسم الجلالة وباسم الربوبية، مبالغة في التضرع إلى الله ليستجيب لهم، فإن عيسى عليه السلام لما علم صدق نيتهم في طلب المائدة، دعا الله أن ينزلها عليهم، وقال في سبب ذلك: لأجل أن نتخذها عيدًا للنصارى، يبدأ من يوم نزولها علينا، وتستمر ذكراها عيدًا لمن يأتي بعدنا من النصارى، إلى أن ينتهي زمنهم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم.

فمِنْ في قوله (مِنَ السَّمَاءِ) ابتدائية، متعلقة بأنْزل، أي ابتداء نزول المائدة يكون من السماء وقوله (تَكُونُ لَنَا عِيدًا) أي يوم نزولها تكون ذكراه يوم عيد وسرور، نفرح به ونعظمه كلما عاد علينا، وقوله (لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا) بدل مطابقة من لنا، بإعادة العامل حرف الجر، والقاعدة في البدل أَن يحذف معه العامل الذي عمل في المبدل منه، ولذا يقول النحاة: البدل على نية تكرير العامل، فهو منوي لا مذكور، وهذا في العامل الأصلي كالفعل ونحوه، لكن في المكمل – وهو حرف الجر – توسعوا في إعادته مع البدل، لتصوير الحالة وإظهارها على أتم وجه، ومنه في القرآن مواضع كما هنا، وكما في قوله: ﴿لَّجَعَلۡنَا لِمَن یَكۡفُرُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ ‌لِبُیُوتِهِمۡ﴾([8])، وأحيانا يكون تكرار العامل لرفع اللبس، كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ ٱلۡمَلَأُ ‌ٱلَّذِینَ ‌ٱسۡتَكۡبَرُوا۟ مِن قَوۡمِهِ لِلَّذِینَ ٱسۡتُضۡعِفُوا۟ لِمَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُمۡ﴾([9])، فإعادة حرف الجر في (لمن آمن) ترفع اللبس، حتى لا يتوهم أن (مَن) في (مَن آمنَ) استفهامية، وأنها من جملة قول الذين استكبروا.

وقوله (وَآيَةً مِنْكَ) أي يكون نزول المائدة معجزة نازلة منك، فمنك ظرف مستقر في محل الصفة لآية (وَارْزُقْنَا) أنزل علينا من خزائن رزقك التي لا تنفد، فأنت أكرم من يعطي (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

(قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيۡكُمۡۖ فَمَن يَكۡفُرۡ بَعۡدُ مِنكُمۡ فَإِنِّيٓ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا لَّآ أُعَذِّبُهُۥٓ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ)(115)

دلّت الآية أن الله استجاب لعيسى دعاءه وأنزل عليهم المائدة، فقوله (إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ) هو استجابة بنزول المائدة في الحال، ودلّت أيضا على أنّ من يكفر منهم بعد نزول المعجزة التي طلبوها فإن الله تعالى يعذبه عذابا شديدًا، لا يعذب مثله (أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) لأنه لم يبقَ لهم – بعد قيام الحجة عليهم، وظهور المعجزة الحسية بالمشاهدة والعيان، ومجيئها حسب طلبهم – عذرٌ.

وقد جاء في حديث عمار بن ياسر، يُروَى مرفوعا وموقوفًا، أنّ المائدة كانت خبزًا ولحمًا([10])، وما ورد في كتب التفسير من أخبار عن أوصافِها كله لا سندَ له.

 

[1])    الشورى: 13.

[2])    مريم: 29.

[3])    مريم: 30،31.

[4])    مريم: 32.

[5])    البخاري: 5386.

[6])    المصدر السابق.

[7])    البقرة: 260.

[8])    الزخرف: 33.

[9])    الأعراف: 75.

[10])       الترمذي: 3061

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق