طلب فتوى
مقالاتمقالات المفتي

مفاجآت المؤتمر الوطني الأخيرة

بسم الله الرحمن الرحيم

مفاجآت المؤتمر الوطني الأخيرة 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

      أما بعد:

فإن هناك ثلاث مفاجآت في المؤتمر الوطني العام، كانت محل استغراب.

الأولى: الاتفاق الذي تم على عجل بين القُوَّتين المتنافستين داخل المؤتمر على رئاسة الحكومة وحقائبها ـ وتم على إثره حجب الثقة عن الحكومة السابقة، ورفضها جملة وتفصيلا، بعد أن كان أعضاء المؤتمر قد توافقوا على أن يستعرضوا أعضاءها واحدا واحدا، لإبقاء من يرونه مناسبا، واستبدال غيره، هذه واحدة.

المفاجأة الثانية في هذا الاتفاق: أنه أظهر زُهدا في رئاسة الحكومة غير مسبوق

، ولا متوقع من الكتلتين اللتين كان التنافس على الحكومة بينهما على أشده، وأظهر هذا التوافق أيضا رغبتهما أن يتم إسناد رئاستها إلى شخصية مستقلة، لا تنتمي إلى أي من الكتلتين، وثار جدل واسع في المؤتمر عند تطبيق هذه الرغبة حول:

 

هل المستقل هو من أوراقه تُثبِت عدم انتمائه إلى أي توجه، بحيث لا يمتنع أن يدخل فيه من كان بالأمس حزبيا، واليوم قَدَّم استقالته منه؟ أم هو من كان حقيقة مستقلا في فكره، وانتمائه وتوجهه، ولا عبرة بأوراقه؟

وهذه مسألة لعلها قانونية، يفصل فيها القانون، هل العبرة في الشروط الموضوعة لاستحقاق أمر، بالشكل، أم بالمضمون، أم بهما معا؟!

المفاجأة الثالثة ـ وهي ثالثة الأثافي ـ أنَّ التبرير الذي ظهر في أروقة المؤتمر وفي الإعلام، بلسان الحال ولسان المقال لتسبيب هذا الزهد في رئاسة الحكومة ـ هو ضعف الكيانات السياسية، واكتشاف أنها غير قادرة على قيادة المرحلة، وهذا صحيح من حيث الجملة، فالقلة من أعضاء المؤتمر ـ سواء من الكيانات أو المستقلين ـ، هم من أظهروا مقدرة وكفاية وموضوعية في تناول القضايا المطروحة، وما ذكر من عجز المؤتمر حسب ما ظهر في الإعلام سببه حداثة التجربة الحزبية، وعدم نضجها، وأنه كان ينبغي تأجيلها إلى مرحلة ما بعد الدستور، وهذا حق؛ فالقصور واضح، والتجاذبات، والتقلبات المصلحية والمناطقية في المواقف طغت داخل المؤتمر على المبادئ، بل أحيانا ضحَّت بالثوابت على حساب مكاسب حزبية أو جهوية.

وهناك مظاهر أخرى للضعف متعددة، فلا يزال المؤتمر يسير أعماله دون هيكلية لأمانته العامة وديوان رئاسته، وهو ما يفسر عجزه أحيانا عن تنفيذ قراراته، وعجزه أيضا عن تتبع ما يُصرف باسمه من أموال، وعدم معرفة كثير من أعضائه حتى للجهة الخارجية التي تضع تصورا لهيكلية رئاسته وديوانه، فهل كل هذه التفاصيل معلومة لأعضائه؟ أم يفاجؤون يوما ما بما لم يحتسبوا.  

فُرض نظام الكيانات السياسية علينا عندما صدر قانون تشكيل الأحزاب، وتحمس له بعض أعضاء المجلس الوطني الانتقالي، ولم يعبؤوا بوجهة النظر الأخرى، وقد قيل في المثل: (لو يُطاع لقصير أمرٌ!).

الإعلام الذي يعترف الآن بفشل التجربة، هو نفسه الذي كان أيامها يدعمها بقوة.

ومما زاد من إخفاق التجربة الحزبية في ليبيا، الطريقة التي تم بها الاختيار غير الموفق لأعضاء الكيانات السياسية، المؤسسة على اعتماد القوائم المغلقة في ترشيح أعضائها، وعلى أنه لا بد أن يكون المرشَّحون في كل كيان، رجلا وامرأة على التعاقب، فصارت المسألة لدى بعض الكيانات مجرد ملء فراغات للتوفية بالشروط المطلوبة وحسب! وصارت لدى الناخبين اختيارا للمجهول وضربة حظ! فالذي يُختار في هذه القوائم هو الكيان، لا الشخص، فقد يظن الناخب أنه اختار في دائرته مثلا صاحب كفاية أو خبير، فيكتشف أنه من عامة الناس!

وقد يظنه رجلا فيجده امرأة، أو العكس!

فكان الناخب في ذلك أشبه بالمقامر لا يدري ما يقع في يده، ونتج عن هذا أن عددا كبيرا من الأعضاء وصل إلى المؤتمر، وليس له فيما يجري ناقة ولا جمل، ولا يعدوا أن يكون وجوده صوريا، دعاه كيان أكبر منه أن يتكتل فأجاب، ليس عنده برنامج ولا خطر بباله يوما ما أن يتحزب، لكن ما دامت الشروط التي وضعها المجلس الوطني الانتقالي متوفرة، وهي أن كل تجمع يضم ثلاثة أشخاص فما فوق يمكنهم أن يُكَوِّنُوا تكتلا سياسيا، فلم لا يتكتل؟ وقد وُعد إن لَمْلَمَ نفسه على وجه السرعة، وأتم الأوراق المطلوبة، أن يكون ضمن الكيان الأكبر، ويُعْطَى إن تحصل على مقاعد من المغنم نصيبا، فلكل مقعد في المؤتمر ثمنه وقدره، وليس شيء يضيع.

نظام القوائم المغلقة قد يكون ناجحا في دولٍ النظام الحزبي فيها عريقٌ مُتأصل، معالمه واضحة، وسياساته ثابته معلنة، يعرفها الناخبون جملة وتفصيلا، ليس فقط من خلال البيانات والقوانين المؤسسة للحزب، بل أيضا من خلال الممارسة والتطبيق، جُربت فصَحَّت، فالناخب عندهم حينما يختار على أساس القائمة، يعلم فعلا ما الذي اختاره، فلا يُفاجأ بأنه اختار شيئا وظهر غيره؛ لأنه اختار برنامجًا، ومن ينجح أيا كانت رقعته أو جهته، سيُطبق البرنامج، فالشخص المرشَّح في ذاته لا يهم الناخب كثيرا.

فالذي حدث أننا تكلفنا أن نصعد السُّلَّم من أعلاه، حتى لا يقال إننا (بلا ديمقراطية، أو إننا لا نحب مشاركة المرأة في الانتخابات!)، وها نحن ندفع ثمن تكلف القفز قبل أن نمهد الأسس، وإن شئت قلت ثمن الرياء.

وصلى الله على سيدنا محمد

وعلى آله وصحبه وسلم

الصادق بن عبدالرحمن الغرياني

مفتي عام ليبيا

2 ذو الحجة 1433 هـ

الموافق 18 أكتوبر 2012 م

 

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق