طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (255)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (255)

[النساء:102-103].

(وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا)[النساء:102].

(وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ) هذا شروعٌ في بيان صفة صلاة الخوف، والخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي حكمه مَن يقوم مقامَه مِن الولاة وقادة الجيوش بعده، كالخطاب في قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً)([1])، والخطابُ وإن كان موجهًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنّ أصحابه داخلونَ معه بقوله (كُنتَ فِيهِمْ)، وإفراده بالخطابِ في (كنتَ) تنويهًا بشأنه؛ لأنه الذي يقيمُ لهم صلاتهم، فلا دلالةَ فيه على مفهوم المخالفة، بأنّ صلاة الخوف لا تصلَّى إذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم معهم، وقد صلاها أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم، والأمراءُ من بعده، وقد شُرعت صلاة الخوف في غزوة ذاتِ الرقاع، في السنةِ السادسة، فصلاها النبي صلى الله عليه وسلم بهم في موضعٍ يسمى بطنَ نخلة، وسببُها أن المشركين قالوا: إن للمسلمين صلاةً يحبونها، فَلَو أخذناهم فيها على غرة، فأوحى الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بصلاة الخوف، ونزلت الآية، وأُمروا أن يأخذوا حِذرَهم، وقوله (فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ) يدل على أن الإمام يقسمُ الجيش إلى طائفتين، والطائفة: هي الجماعة الكثيرة من الناس، فطائفة تكون مع الإمام في الصلاة (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) معهم وهم في الصلاة، يصلون بها، فيأخذون معهم الخفيف من السلاح، الذي يتمكنونَ معه من أدائها، ولا يشغلهم أو يعوقهم عنها (فَإِذَا سَجَدُواْ) أي سجدتِ الطائفةُ التي كانت مع الإمام، فذلك وقتُ الغرة، الذي يطمع فيه العدوُّ منهم، ولذا قال (فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ) أي أصحابُ الطائفة الأخرى يكونونَ في مواجهة العدو، وحرّاسا لمن يصلُّون، ثم بعد أن يصليَ الإمام بالطائفة التي معه ركعةً، تكملُ صلاتها وحدَها، وينتظر الإمام الطائفةَ التي لم تصلِّ، فتلتحق الطائفة الأخرى التي لم تصل بالإمام وهو ينتظرها، فتصلي معه الركعة الباقية، ثم تكمل الطائفة الثانية الركعة الثانية فُرادَى.

وقد رُويت في صلاة الخوف صفاتٌ عديدةٌ، ومن أصحِّ ما جاء فيها ما رَواهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ»، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: (أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَصَفَّتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وِجَاهَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ قَامَ، وَأَتَمُّوا رَكْعَةً لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَوَقَفُوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ لَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَضَوُا الرَّكْعَةَ الَّتِي فَاتَتْهُمْ وَسَلَّمُوا)([2]). وهذه الصفةُ لصلاة الصبح أو صلاة السفر في الرباعية عندَ الخوف، أما لو كانت صلاة الخوف في الحضرِ؛ فإن الإمام – في الصلاة الرباعية وكذلك في الثلاثية مطلقًا – يصلي بالطائفة الأولى ركعتين، ويتمونَ لأنفسهم، وينتظر الإمام الطائفة الأخرى، فيصلي بها في الرباعيةِ ركعتينِ، وفي المغرب ركعة، ثم يسلم، ويكملونَ لأنفسهم.

ثم أمرهم الله جميعًا بقوله (وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) السلاح: آلة الحرب التي يكون بها القتال، من السِّكِّين والخِنجر فما فوق، إلى القنابل والصواريخ، وأُمروا أن يكونَ السلاح معهم، ولا يفارقوه البتّة، والحِذْر: الحزمُ والحيطة، وأخذُهُ: توخِّيه والاتصاف به، والأمرُ بالحذر أمرٌ معنويُّ، بخلافِ السلاح، فإنه محسوسٌ، فإسنادُ الأخذ إلى الحِذر من بابِ المشاكلة في اللفظ، أو هو في جانبِ الحِذر مجازٌ، وفي السلاحِ حقيقةٌ، على حدِّ قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ)([3])، أي دخلُوا الدار، واتصَفوا بالإيمان، ولكن لتمكنهِ من قلوبِهم، كأنهم دخلُوهُ واحتواهُم (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ) الغفلة: التهاونُ وترك الحيطة، والأمتعة: كل ما يحتاجُه المجاهدُ مما يعينه على القتال، ويدخلُ فيه ما يسمَّى الدعم اللُّوجِسْتِيّ في الوقتِ الحاضر، فيشمل: التموين والعربات والواقي، ونحو ذلك (فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً) ميلةً من المَيل، وهو الانعطافُ، منصوبٌ على المصدر المبين لنوعه، أي: فيتجهونَ إليكم، مستجمعينَ قواهُم في غارة، يَميلونَ ويَثِبُونَ فيها وثبةً واحدةً، تكون خاطفةً، ينالونَ فيها ما يريدون، وتكونُ لشدّتها مرةً واحدةً، لا يحتاجونَ إلى غيرها، هذا ما يودونَ ويَتمنَّون أن يصلوا إليه لو تهاونتم في أخذ الحِذر، وغفلتم عن أسلحتِكم (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ) خففَ عنهم في حالة المطر، إذا شقَّ عليهم حملُ السلاح، أن يضعوا أسلحتهم؛ لأنها حالة يستوونَ فيها هم والعدو، وكذلك خففَ عنهم في حالة المرض؛ لأنها تكون خاصةً ببعض أفراد الجيش، لا تؤثرُ فيه، ثم أَكد لهم مرة أخرى الأمرَ بأخذ الحِذر؛ لأن أكثر ما يؤتى من قِبَله المقاتلُ هو التهاون والتفريطُ (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) في هذا تطمينٌ للمؤمنين، وتثبيتٌ ووعدٌ لهم بالنصر، وأنّ الكافرين أعدَّ الله لهم عذاب الدنيا بالهزيمة والهوانِ، وعذاب الآخرة بالنار، وبئس القرار، فالجملة واقعةٌ مما قبلها موقع التعليل المستفاد من (إِنَّ)، فإنها إذا وقعت بعد الأمر والنهي، كما هنا، أَغنت عن اقترانها بالفاء أو اللام المفيدة للتعليل، فلا تضعفُوا بسبب ما أُمرتُم به مِن أخذ الحيطة والحذر، فإن الله خاذلهم.

(فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا)[النساء:103].

(فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ) انتهيتم منها، كما في قوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ)([4]) (فَاذْكُرُواْ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا) فإذا انتهيتم من صلاة الخوف على نحو ما ذُكر، فأكثروا وأنتم تواجهون العدوَّ من ذِكر اللهِ، على جميعِ أحوالكم؛ قيامًا بالتكبيرِ ونحوه، وقتَ المطاردة والكرّ، وقُعودًا وقتَ الرماية، وعلى جنوبِكم إن كُنتُم مُثخَنينَ بالجراح، أو أن المقصودَ بذكر الله قيامًا وقعودًا الإتيانُ بالصلاة على أيّ حال، وكيفما تَيسَّر، حتى عند اشتدادِ القتالِ، وتلاحُمِ الصفوف، وذلك حين لا تتأتَّى قسمة الجيش إلى طائفتين، وتُعرفُ بصلاة المسَايَفة، فلا حرجَ أن يتركَ المقاتلُ بعضَ أركان الصلاةِ في حالة التلاحم مع العدوّ، ويأتي بما يقدرُ عليه من أركانها؛ كالنيةِ، والتكبير، في حالِ الاشتباكِ والمواجهة، والكرّ والفرّ (فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ) إذا ذهبَ الخوف، وانتهت المعركة، ورجعت الطمأنينة، فعودوا إلى ما كُنتُم عليه من إقامة الصلاة كاملةً، بكلِّ شرائطها وأركانها (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) فالصلاةُ في كلِّ الأحوالِ، سواء في الأمنِ أو الخوفِ، يجبُ أداؤها في أوقاتِها، ولا يجوزُ التهاون فيها، أو تأخيرها؛ لأن الله تعالى جعلَ لها أوقاتًا محددة، فرَضَ أنْ تُؤدَّى فيها.

 

[1]) التوبة:103.

[2]) الموطأ:441.

[3]) الحشر:9.

[4]) الجمعة:10.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق