طلب فتوى
الحدود و الجناياتالفتاوى

ما مقدار قيمة دية القتل الخطأ؟ وعلى من تجب؟ وهل يجوز الصلح عليها؟

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

رقم الفتوى (5214)

 

ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:

اصطدمتْ سيارةٌ بسيارة أخي، ونتج عن هذا الحادث وفاةُ أخي، وابْنيهِ الاثنين، وأختي، وتعرضُ زوجته لكسر في الحوض والكتف، أدخلت على إثره المستشفى أسبوعين، وأثبت تقرير الخبرة القضائية أن سائق السيارة الأخرى كان سكرانَ أثناء القيادة، بنسبةٍ تظهر معها عدم القدرة على التحكم في الكلامِ والحركةِ، مع عدم الاتزان في السيرِ وقيادة السيارة، كما أقرَّ السائق في تقرير المرور أنه لم يتحصل على رخصة قيادة، فما هو مقدار الدية للمتوفين؟ وماذا يجبُ في حقِّ الكسورِ التي تعرضت لها أختي؟ علما أنه ليس لأخي أبناء غير اللذينِ كانا معه في السيارة.

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فالأصل أن دية الخطأِ على أهلِ البادية مائةٌ من الإبل، وعلى أهل المدنِ من غالب نقدِ البلدِ، من ذهبٍ أو فضةٍ، قال الباجي رحمه الله: “إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ فِي الدِّيَةِ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِمْ، وَاخْتَصَّ بِهِمْ مِنْ أَفْضَلِ الْأَمْوَالِ، وَمَا يَكُونُ تَعَامُلُهُمْ بِهِ، وَيَكْثُرُ وُجُودُهُمْ لَهُ… وَمَنَعَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى التَّخْيِيرِ لِجَانٍ أَوْ مَجْنِيٍّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، إلَّا أَنْ يَقَعَ الِاتِّفَاقُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى شَيْءٍ فَيَكُونَ تَعَاوُضًا مُسْتَقلًّا” [المنتقى: 70/7]، فإن كان النقدُ من غيرهما، كما هو واقعُ أهلِ المدن اليوم، فيرجعُ في تقدير قيمة دية الخطأِ إلى قيمة مائةٍ من الإبل، بالنقد المتعاملِ به في البلد؛ لأن الإبل هي الأصلُ في تقويم الديات، وهي محلُّ إجماع بين العلماء، دون التقدير بغيرها، وتكون الإبلُ مخمسة الأسنان: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون ذكر، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، ولا تقدر القيمة من المعلوفة السمينة، ولا من الهزيلة، بل الوسط مِن كل سن مِن هذه الأسنان، وينظر في قيمة الإبل -إن لم توجد في المدينة- لأقرب مدينة أو بادية، فتقسط الدية من الإبل على العاقلة أو الجاني على ثلاث سنوات، وتقدر قيمة الإبل في كل سنة حسب السوق، جاء في قرار مجلس البحوث رقم (02) لسنة 1439هـ – 2018م، ما نصّه: “1. الدّية في القتل تقدّر بالإبل (مائة من الإبل)؛ لأنّ الإبل هي الأصل منذ العهد الأوّل في تقويم الدّيات، ولإجماع العلماء عليها دون الأصناف الأخرى. 2. يجوز دفع قيمة الإبل بالنّقد، وتقدّر قيمة الإبل في كلّ وقت بحسبه”.

وديةُ المرأة المسْلمة على النصفِ من دية الرجل؛ لحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دِيَةُ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ) [السنن الكبرى للبيهقي: 67/7].

والأصل في دية الخطأ أنها على العاقلة، قال ابن الحاجب رحمه الله: “وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ إِذَا كَانَتْ خَطأً أَوْ فِي حُكْمِهِ، مِنْ غَيْرِ اعْتِرَافٍ، وَبَلَغَتْ ثُلُثَ دِيَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَو الْجَانِي؛ أَيْضًا عَلَى الْأَشْهَرِ مُنَجَّمَةً” [جامع الأمهات:505].

والعاقلة الذين تجب عليهم الدية، هم عصبة القاتل من قرابته؛ وتشمل الآباء والأبناء والإخوة وأبناء الإخوة والعمومة وأبناء العمومة وَإن بعدُوا، وكذلك أهل الديوان -جهة العمل والنقابة التي تضمهم- لقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك في محضرٍ من الصحابة رضي الله عنهم. [ينظر الاستذكار:221/25]؛ قال ابن الحاجب رحمه الله في تعريف العاقلة: “وهِيَ الْعَصَبَةُ، وَأُلْحِقَ بِهَا أَهْلُ الدِّيوَانِ؛ لِعِلَّةِ التَّنَاصُرِ… وَيُبْدَأُ بِأَهْلِ الدِّيوَانِ، فَإِن اضطرَّ إِلَى الْمَعُونَةِ أَعَانَتْهُمْ عَصَبَتُهُمْ” [جامع الأمهات:505]، والمقصود بأهل الديوان؛ مَن يشتركون مع القاتل في الوظيفة في أنحاء الدولة؛ قال الدردير رحمه الله: “الدِّيوانُ: اسْمٌ لِلدَّفْتَرِ، يُضْبَطُ فِيهِ أَسْمَاءُ الْجُندِ وَعَدَدُهُمْ وَعَطَاؤُهُمْ … فَيُقَدَّمُونَ عَلَى الْعَصَبَةِ، حَيْثُ كَانَ الْجَانِي مِنَ الْجُندِ، وَلَوْ كَانُوا مِن قَبَائِلَ شَتَّى”[الشرح الصغير:398/4]، ونقل ميارة عن ابن عبد البر رحمهما الله: “فإن عَجَزَ عَنْ سَدَادِهَا أَهْلُ الدِّيوَانِ وَالعَصَبَةُ، فَفِي بَيْتِ مَالِ المُسْلِمِينَ” [الروض المبهج:/2473].

فإن تعذرَ ذلك أيضًا، كما هو الحال اليوم؛ لعدم إلزام العاقلةِ بالديةِ قانونًا، وعدم فرض آليّة تنظمها؛ ولتعذّر أخذها مِن بيت المال، فالدية حينئذ تكونُ في مالِ الجاني وحده، لئلَّا يذهبَ دمُ المقتولِ هدرًا.

ولأولياء المجني عليهم أن يصطلحوا على أقل من الدية المذكورة إذا رأوا ذلك، أو يعفوا عن الجاني دونَ مقابل؛ لأن الديةَ حقّ لهم، قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿‌إِلَّا ‌أَنْ ‌يَّصَّدَّقُوا﴾: “وَأَمَّا الْكَفّارَةُ الَّتِي هِيَ للهِ تَعَالَى فَلَا تَسْقُطُ بِإِبْرَائِهِمْ، وَإِنَّمَا تَسْقُطُ الدِّيَةُ الَّتِي هِيَ حَقُّ لَهُمْ” [تفسير القرطبي: 323/5]، لكن مال الصلح يدفعه الجاني؛ لأنّ العاقلة لا تحمل صلحًا عند جمهور العلماء.

ويدفعُ معجَّلا؛ لِمَا يلزمُ على التأخير من فسخ الدين في مؤخر، قال الدّسوقي رحمه الله: “وَجَازَ الصُّلْحُ عَنْ دِيَةِ الْخَطَإِ بِحَالٍّ مُعَجَّلٍ، فَيَجُوزُ أَخْذُ ذَهَبٍ مُعَجَّلٍ عَنْ وَرِقٍ وَعَكْسُهُ، وَكَذَا أَخْذُ أَحَدِهِمَا مُعَجَّلًا عَنْ إبِلٍ، وَالْمُرَادُ بِالتَّعْجِيلِ الدَّفْعُ بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُلُولَ مِنْ غَيْرِ تَعْجِيلٍ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ دَيْنًا فَيَلْزَمُ الْمَحْذُورُ” [الشرح الكبير: 263/4].

وأما الكسور التي تعرضت لها الأختُ؛ فإن برئتْ وعادتْ كما كانت، فليس على الجاني المخطئ شيءٌ، وإن برئتْ لكن لم تعد كما كانت، ففيها حكومةٌ وتعويضٌ بتقدير القاضي، قال الدردير رحمه الله: “(وَفِي الْجِرَاحِ) أَيْ جِرَاحِ الْخَطَإِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا دِيَةٌ مُقَرَّرَةٌ، أَوْ الْعَمْدِ الَّتِي لَا قِصَاصَ فِيهَا وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مُقَدَّرٌ كَعَظْمِ الصَّدْرِ وَكَسْرِ الْفَخْذِ (حُكُومَةٌ) أَيْ شَيْءٌ مَحْكُومٌ بِهِ أَيْ يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ الْعَارِفُ … ثُمَّ بُرْؤُهُ لَا يَسْتَلْزِمُ عَوْدَهُ كَمَا كَانَ، لَكِنْ إنْ عَادَ كَمَا كَانَ فَإِنَّمَا عَلَى الْجَانِي الْأَدَبُ فِي الْعَمْدِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَإِ، فَالْحُكُومَةُ إنَّمَا هِيَ فِيمَا إذَا بَرِئَ عَلَى شَيْءٍ” [الشرح الكبير:269/4].

وعلى السائق السكرانِ أن يراجعَ نفسَه، وينظرَ فيما ترتبَ على سكرهِ من مآسٍ كبيرة، ذهبتْ بأرواح أسرةٍ بأكملها، وعليه أن يتوبَ إلى الله ويندمَ، فإنَّ السكرَ من كبائر الذنوب، وبخاصة ما إذا ترتبتْ عليه مثل هذه الجنايات المتعددة في الأرواحِ، والأضرار على الأحياء، والله أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

 

 

لجنة الفتوى بدار الإفتاء:

أحمد بن ميلاد قدور

حسن بن سالم الشريف

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

مفتي عام ليبيا

22//ذو القعدة//1444هـ

11//06//2023م

 

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق